وخلاصة القول: إن الدعاة إلى السنة لا يتركون المذاهب كلها جملة وتفصيلاً، بل إنهم يحترمونها ويقدرون أئمتها، ويستعينون بها على فهم الكتاب والسنة، ثم يتركون من أقوالهم وأرائهم ما تبين أنه على خلاف الكتاب والسنة، وذلك من تمام إجلالهم واتباعهم، كما قال أبو الحسنات اللكنوي في " الفوائد البهية في تراجم الحنفية " بعد أن ذكر أن عصام بن يوسف البلخي من أصحاب أبي يوسف ومحمد كان يرفع يديه عند الركوع والرفع منه، قال أبو الحسنات (ص / 116): " يعلم منه أن الحنفي لو ترك في مسألة مذهب إمامه لقوة دليل خلافه لا يخرج به عن ربقة التقليد، بل هو في عين التقليد في صورة ترك التقليد، ألا ترى إلى أن عصام بن يوسف ترك مذهب أبي حنيفة في عدم الرفع ومع ذلك هو معدود في الحنفية ".
قال: " وإلى الله المشتكى من جهلة زماننا حيث يطعنون على من ترك تقليد إمامه في مسألة واحدة لقوة دليلها ويخرجونه عن جماعة مقلديه، ولا عجب منهم فإنهم من العوام، إنما العجب ممن يتشبه بالعلماء، ويمشي مشيهم كالأنعام. "
2 - ثم قال الشيخ الطنطاوي تفريعاً على ما ذكر في الفقرة الأولى من المقال، عن الدعاة إلى السنة:
" فكل من استطاع أن يقرأ في البخاري ومسلم ومجمع الزوائد وأن يفتش عن اسم الراوي في التقريب والتهذيب، وجب عليه الاجتهاد وحرم عليه التقليد ".
أقول: في هذه الكلمة ما يوهم أيضاً خلاف ما عليه الدعاة إلى السنة وإليك البيان:
9 - تعريف التقليد وبيان ما يحرم منه وما يجب:
من المقرر عند العلماء أن التقليد هو " أخذ القول من غير معرفة دليله " ومعنى ذلك أن التقليد ليس بعلم، ولذلك جزم العلماء بأن المقلد لا يسمى عالماً (12)، بل نقل الاتفاق على ذلك ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " (2/ 36، 117) وابن القيم في " إعلام الموقعين " (3/ 293) والسيوطي وغيرهم من المحققين، حتى بالغ بعضهم فقال: " لا فرق بين يهيمة تقلد وإنسان يقلد "! وأطلق بعض الحنفية عليه اسم الجاهل! فقال صاحب الهداية في صدد الكلام على تولية المقلد على القضاء: " فأما تقليد الجاهل فصحيح عندنا، خلافاً للشافعي " (13).
ولذلك قالوا: إن المقلد لا يجوز له الإفتاء.
فإذا عرف هذا يظهر السبب الذي من أجله حمل السلف على التقيلد والمقلدين وصرحوا بذمه وتحريمه (14). ذلك لأنه يؤدي بصاحبه إلى الإعراض عن الكتاب والسنة في سبيل التمسك بآراء الأئمة وتقليدهم فيها، كما هو الواقع بين المقلدين، مما هو مشهور عنهم، بل هو ما قرره بعض متأخريهم من الحنفية، فقال الشيخ محمد الخضري في صدد الكلام عن دور التقليد وأهله:
". . . ولا يستجيز الواحد منهم لنفسه أن يقول في مسألة من المسائل قولا يخالف ما أفتى به إمامه، كأن الحق كله نزل على لسان إمامه وقلبه! حتى قال طليعة فقهاء الحنفية في هذا الدور وامامهم غير منازع وهو أبو الحسن عبيد الله الكرخي: " كل آية تخالف ما عليه أصحابنا فهي مؤولة أو منسوخة، وكل حديث كذلك فهو مؤول أو منسوخ " وبمثل هذا أحكموا دونهم إرتاج باب الاختيار " (15).
وقد استولى هذا التوجيه الخاطئ على قلوب كثير من المقلدة، لا سيما في الأزمنة المتأخرة، بحيث صار من المعروف المشهور ردهم السنن الصحيحة اتباعاً للمذهب فإذا قيل لأحدهم: هذه المسألة التي ذكرتها خلاف السنة، بادرك بقوله: أأنت أعلم بالسنة من علماء المذهب؟! لا يجوز العمل بالحديث لغير المجتهد! هذا جوابهم جميعاً لا فرق في ذلك بين عاميهم وعالمهم!
وهم حين يجيبونك بهذا الجواب الذي لا يمكن أن يصدر ممن عرف قدر حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والأدب معه، يجهلوم أو يتجاهلون أن الحديث الذي لم يأخذ به مذهبهم قد قال به مذهب آخر أو إمام آخر ليس هو دون مذهبهم أو إمامهم، فالذي ذهب إلى الحديث يكون قد أخذ به وبالمذهب الذي عمل به، بينما مخالفه إنما يعمل بالمذهب فقط!
¥