شنّ بعض المحدثين هجومًا على تعريف النحاة النحو بـ"أنه علم يعرف به أحوال الكلم إعرابًا وبناءً" بجعلهم النحو محصورًا في الحرف الأخير من الكلمة إعرابًا وبناءً (4)، واتهم النحو العربي بأنه نحو لفظي لا يلتفت إلى المعنى، وقد سرت هذه التهمة إلى عامة المحدثين، وكأنهم لم يقفوا على ما يسمّى معاني النحو في تراثنا العربي.
وقد أهمّني هذا الموضوع منذ أمد، وصرفت إليه شيئًا من عنايتي، وبذلت له شيئًا من فكري وجهدي، حتى خطر ببالي تجربة درس النحو على المعاني مع طلبة برنامج الدكتوراه.
وكان يستوقفني كلام لأحمد بن فارس في كتابه "الصاحبي"؛ إذ قال: "فأقول: إنّ لعلم العرب أصلاً وفرعًا:
أمّا الفرع فمعرفة الأسماء والصفات كقولنا: "رجل" و"فرس" و"وطويل" و"قصير". وهذا هو الذي يُبدأ به عند التعلم.
وأمّا الأصل فالقول على موضوع اللغة وأوَّليتها ومنشئها، ثم على رسوم العرب في مخاطبتها، وما لها من الافتنان تحقيقًا ومجازًا.
والناس في ذلك رجلان: رجل شُغل بالفرع فلا يَعْرِف غيرَه، وآخر جمع الأمرَين معًا، وهذه هي الرتبة العليا، لأنّ بها يُعلم خطاب القرآن والسنّة، وعليها يُعوّل أهل النظر والفُتيا؛ وذلك أنّ طالب العلم العُلوي يكتفي من أسماء "الطويل" باسم الطويل، ولا يضيره أن لا يعرف "الأشقَّ" و"الأمقَّ" وإن كان في علم ذلك زيادة فضل.
وإنما لم يضره خفاء ذلك عليه لأنه لا يكاد يجد منه في كتاب؛ إذ?الله جلّ ثناؤه شيئًا فيُحْوَج إلى علمه، ويقل مثله أيضًا في ألفاظ رسول الله هي السهلة العذبة.?كانت ألفاظه
ولو أنه لم يعلم توسُّع العرب في مخاطباتها لَعَيَّ بكثير من علم مُحْكَم الكتاب والسنّة، ألا تسمع قول الله جلّ ثناؤه: چ ? ? ? ? ? ? ? ? ?چ الأنعام: 52 إلى آخر الآية؟ فَسِرُّ هذه الآية في نظمها لا يكون بمعرفة غريب اللغة والوحشيِّ من الكلام، وإنما معرفته بغير ذلك مما لعلّ كتابنا هذا يأتي على أكثره بعون الله تعالى.
والفرق بين معرفة الفروع ومعرفة الأصول أنّ متوسِّمًا بالأدب لو سُئل عن "الجزم" و"التسويد" في علاج النوق، فتوقف أو عيَّ به أو لم يعرفه، لم ينقصه ذلك عند أهل المعرفة نقصًا شائنًا؛ لأنّ كلام العرب أكثر من أن يُحصى. ولو قيل له: هل تتكلم العربُ في النّفي بما لا تتكلم به في الإثبات، ثم لم يعلمه لنقصه ذلك في شريعة الأدب عند أهل الأدب، لا أنّ ذلك يُرْدي دينه أو يجُرُّه لمأثم.
كما أنّ متوسِّمًا بالنحو لو سُئل عن قول القائل:
لَهِنَّكِ من عبْسية لوسيمة على هَنَوات كاذبٌٍ من يقولها
فتوقّف أو فكّر أو استمْهل لكان أمرُه في ذلك عند أهل الفضل هيِّنًا، لكن لو قيل له مكان "لَهِنَّكِ" ما أصل القَسم، وكم حروفه، وما الحروف الخمسة المشبّهة بالأفعال التي يكون الاسم بعدها منصوبًا وخبرُهُ مرفوعًا؟ فلم يُجِب لَحُكِم عليه بأن لم يُشامَّ صناعة النحو قط.
فهذا الفصل بين الأمرين" (5).
القدامى يدخلون في النحو كل علوم اللغة، يشهد لذلك ما جاء في "المزهر" ص27 من ط الوراق "ومن الدليل على صحة ما ذكرناه أنّ جميع ما وقع فيه "كتاب العين" من معاني النحو إنما هو على مذهب الكوفيين، وبخلاف مذهب البصريين؛ فمن ذلك بُدئ الكتاب به، وبُني عليه من ذكر مخارج الحروف في تقدميها وتأخيرها؛ وهو على خلاف ما ذكره سيبويه عن الخليل في كتابه، وسيبويه حاملٌ علمَ الخليل، وأوثقُ الناس في الحكاية عنه؛ ولم يكن ليختلف قولُه، ولا ليتناقض مذهبُه؛ ولسنا نريد تقديم حرف العين خاصة للوجه الذي اعتلَّ به، ولكن تقديم غير ذلك من الحروف وتأخيرها. وكذلك ما مضى عليه الكتابُ كلُّه من إدخال الرباعي المضاعف في باب الثلاثي المضاعف، وهو مذهب الكوفيين خاصة. وعلى ذلك استمر الكتاب من أوله إلى آخره، إلى ما سنذكره من نحو هذا".
¥