تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قال محمد الخضر حسين: "صرّح ... كثير من النحاة بأن علْم النحو يبحث عن أحوال الألفاظ من حيث دلالتها على المعاني التركيبية، أي: المعاني التي تستفاد من إسناد بعض الكلم إلى بعض، قال أبو إسحاق الشاطبي في "شرح الخلاصة": النحو في الاصطلاح: علْم بالأحوال والأشكال التي بها تدل ألفاظ العرب على المعاني، ويعني بالأحوال وضع الألفاظ من حيث دلالتها على المعاني التركيبية، أي: المعاني التي تستفاد بالأشكال مما يعرض في آخر طرفي اللفظ ووسطه من الآثار والتغييرات التي تدلّ بها ألفاظ العرب على المعاني" (6) وفرّق السيد الجرجاني بين علمي النحو والمعاني، فجعل علم النحو العلم الذي يبحث عن المركَّبات باعتبار هيئتها التركيبية وتأديتها لمعانيها الأصلية، وجعل علْم المعاني العلْم الذي يبحث عن المركَّبات باعتبار إفادتها لمعانٍ مغايرة لأصل المعنى (7).

وفرّق ابن كمال باشا بين العِلْمَين فقال: "يشارك النحويُّ صاحبَ المعاني في البحث عن المركَّبات، إلا أنّ النحويَّ يبحث عنها من جهة هيئتها التركيبية صحةً وفسادًا، ودلالة تلك الهيئات على معانيها الوضعية على وجه السداد، وصاحب المعاني يبحث عنها من جهة حسن النظم المعبَّر عنه بالفصاحة في التركيب، وقبحه ... فما يبحث عنه في علْم النحو من جهة الصحة والفساد يبحث عنه في علْم المعاني من جهة الحسن والقبح، وهذا معنى كون علْم المعاني تمام علم النحو" (8).

ثم إنّ علم المعاني إن تحدّث عن المعاني الوظيفية من مثل التقديم والتأخير، والتعريف والتنكير، والحذف والذكر، والفصل والوصل، لم يُغفِل أداءها للمعاني الإضافية، وإن تحدّث عن المعاني الإضافية من مثل القصر، والنفي، والاستثناء، والتمنِّي، والاستفهام، والأمر والنهي، والنداء، لم يُغفِل البحث عن المعاني الوظيفية المناسبة لأدائها.

المعنى عند إطلاقه يشمل جميع المعاني من لغوية، وعرقية، واصطلاحية، ووضعية، واستعمالية، وعند تقييده بوصفٍ أو إضافته إلى شيء ما ينصرف مقيَّدًا إلى معنًى خاصٍّ أو متعلّق بذلك الشيء، فإذا قلنا: المعاني اللغوية أو المعجمية انصرف الذهن إلى اللغة أو المعجم، وإذا قلنا: معانٍ فقهية انصرف إلى الفقه، وإذا قلنا: معانٍ بلاغية انصرف الذهن إلى البلاغة، وتعلّق بها، وإذا قلنا المعاني النحوية انصرف إلى النحو مفرداتٍ، وأبنية، وتراكيب، وأساليب، وأحكام، ومصطلحات، فهو بهذا الرصف اختصّ بالنحو، وهذا أمر أو معنًى تقوم عليه جميع المعاني، ولا يتحقق معنًى ما بغيره.

وليس من الضروري معرفة العربي معنى كل كلمة، قال سيبويه عن كلمة "مقتوي ومقتوين" من قول عمرو بن كلثوم:

تهدّدْنا وأوعدنا رويدًا متى كنّا لأمِّك مَقْتَوِينا

"وليس كل العرب يعرف هذه الكلمة" (9). وهذا يدل على أنه ليس من الضروري معرفة العربي بمعنى كل كلمة، مع العلم أنّ غياب المعاني الاستعمالية أكثر من غياب المعاني الوضعية، وهذا يؤكد وجوب تفسير اللغة للعربي وغيره، والحاجة إلى معجم يفسر مختلف الاستعمالات؛ إذ المعاني الاستعمالية أصعب على الإحاطة من المعاني الوضعية، وقد يدرك العربي معاني الكلام النحوية، وإن لم يدرك معاني الألفاظ التي كوّنت البنية النحوية.

وقد يأتي المتكلم بكلام يدرك متلقِّيه معناه النحوي، وإن لم يدرك معنى كل لفظ مفرد، يشهد لذلك ما أورده أبو علي القالي في "الأمالي": "أبو عثمان الأشنانداني قال: كنا يومًا في حلقة الأصمعي إذ أقبل أعرابي يرفل في الخزوز، فقال: أين عميدكم؟ فأشرنا إلى الأصمعي، فقال: ما معنى قول الشاعر:

لا مال إلا العطاف توزره

لا يرتقي النّزّ في ذلاذله أمّ ثلاثين وابنة الجبل

ولا يعدّى نعليه عن بلل؟

قال: فضحك الأصمعي وقال:

عصرته نطفةٌ تضمّنها

أو وجبةٌ من جناة أشكلةٍ لصبٌ تلقى مواقع السبل

إن لم يرغها بالقوس لم تنل

قال: فأدبر الأعرابي وهو يقول: تالله ما رأيت كاليوم عضلةً! ثم أنشدنا الأصمعي القصيدة لرجل من بني عمرو بن كلاب أو قال من بني كلاب. قال أبوبكر: هذا يصف رجلاً خائفًا لجأ إلى جبل وليس معه إلا قوسه وسيفه، والسيف: هو العطاف، وأنشدنا:

لا مال لي إلا عطافٌ ومدرعٌ لكم طرفٌ منه حديدٌ ولي طرفُ

وقوله: أم ثلاثين وابنه الجبل" (10).

ولا يهمنا أن كان سؤال الأعرابي امتحانًا للأصمعي أم سؤال مستفهم؟ ولنحمله على الثاني.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير