تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقد لامس هذا المعنى أبو سعيد السيرافي بقوله لـ"متّى": "أم تعرف يا أبا بشر أنّ الكلام اسم واقع على أشياء قد ائتلفت بمراتب، وتقول بالمثل: هذا ثوبٌ، والثوب اسم يقع على أشياء بها صار ثوبًا؛ لأنه نُسِج بعد أن غُزِل، فسداته لا تكفي دون لحمته، ولحمته لا تكفي سداته، ثم تأليفه كنسجه، وبلاغته كقِصارته، ورقّة سلكه كرِقّة لفظه، وغِلظ غزله ككثافة حروفه، ومجموع هذا كله ثوبٌ، ولكن بعد تقدمة كل ما يُحتاج إليه فيه" (19).

وقد زاد عبدالقاهر هذا إيضاحًا بقوله: "واعلم أنّ مثل واضع الكلام مثل من يأخذ قطعًا من الذهب أو الفضة، فيذيب بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدة؛ وذلك أنك إذا قلت: ضرب زيد عمرًا يوم الجمعة ضربًا شديدًا تأديبًا له، فإنك تحصل من مجموع هذه الكلم كلها على مفهوم هو معنى واحد لا عدة معان، كما يتوهمه الناس؛ وذلك لأنك لم تأت بهذه الكلم لتفيده أنفس معانيها، وإنما جئت بها لتفيده وجوه التعلق التي بين الفعل الذي هو "ضرب" وبين ما عمل فيه، والأحكام التي هي محصول التعلق. وإذا كان الأمر كذلك فينبغي لنا أن ننظر في المفعولية من عمرو، وكون يوم الجمعة زمانًا للضرب، وكون الضرب ضربًا شديدًا، وكون التأديب علّةً للضرب. أَيُتَصَوّر فيها أن تفرد عن المعنى الأول الذي هو أصل الفائدة، وهو إسناد ضرب إلى زيد، وإثبات الضرب به له حتى يعقل كون عمرو مفعولاً به، وكون يوم الجمعة مفعولاً فيه، وكون ضربًا شديدًا مصدرًا، وكون التأديب مفعولاً له، من غير أن يخطر ببالك كون زيد فاعلاً للضرب، وإذا نظرنا وجدنا ذلك لا يتصور لأنّ عمرًا مفعول لضرب وقع من زيد عليه، ويوم الجمعة زمان الضرب وقع من زيد، وضربًا شديدًا بيان لذلك الضرب، كيف هو وما صفته، والتأديب علة له، وبيان أنه كان الغرض منه. وإذا كان ذلك كذلك بان منه، وثبت أنّ المفهوم من مجموع الكلم معنى واحد لا عدة معان، وهو إثباتك زيدًا فاعلاً ضربًا لعمرو، في وقت كذا، وعلى صفة كذا، ولغرض كذا. ولهذا المعنى تقول: إنه كلام واحد. وإذ قد عرفت هذا فهو العبرة أبدًا؛ فبيت بشّار إذا تأمّلته وجدته كالحلقة المفرغة التي لا تقبل التقسيم، ورأيته قد صنع في الكلم التي فيه ما يصنعه الصانع حين يأخذ كسرًا من الذهب، فيذيبها ثم يصبّها في قالب، ويخرجها لك سوارًا أو خلخالاً. وإن أنت حاولت قطع بعض ألفاظ البيت عن بعض كنت كمن يكسر الحلقة، ويفصم السوار؛ وذلك أنه لم يرد أن يشبّه النقع بالليل على حدة، والأسياف بالكواكب على حدة، ولكنه أراد أن يشبّه النقع والأسياف تجول فيه بالليل في حال ما تنكدر الكواكب، وتتهاوى فيه.

فالمفهوم من الجميع مفهوم واحد والبيت من أوله إلى آخره كلام واحد. فانظر الآن ما تقول في اتحاد هذه الكلم التي هي أجزاء البيت؟ أتقول: إنّ ألفاظها اتحدت فصارت لفظة واحدة؟ أم تقول: إنّ معانيها اتحدت فصارت الألفاظ من أجل ذلك كأنها لفظة واحدة؟ فإن كنت لا تشك أنّ الاتحاد الذي تراه هو في المعاني إذ كان من فساد العقل، ومن الذهاب في الخبل أن يتوهّم متوهِّمٌ أنّ الألفاظ يندمج بعضها في بعض حتى تصير لفظة واحدة. فقد أراك ذلك إن لم تكابر عقلك أنّ النظم يكون في معاني الكلم دون ألفاظها، وأنّ نظمها هو توخِّي معاني النحو فيها؛ وذلك أنه إذا ثبت الاتحاد، وثبت أنه في المعاني فينبغي أن تنظر إلى الذي به اتحدت المعاني في بيت بشّار. وإذا نظرنا لم نجدها اتحدت إلا بأن جعل "مثار النقع" اسم "كأن"، وجعل الظرف الذي هو فوق رؤوسنا معمولاً لمثار ومعلّقًا به، وأشرك الأسياف في "كأنّ" بعطفه لها على مثار، ثم بأن قال: ليل تهاوى كواكبه، فأتى بالليل نكرة، وجعل جملة قوله: تهاوى كواكبه له صفة، ثم جعل مجموع ليل تهاوى كواكبه خبرًا لـ"كأنّ". فانظر هل ترى شيئًا كان الاتحاد به غير ما عددناه؟ وهل تعرف له موجبًا سواه؟ فلولا الإخلاد إلى الهوينا، وترك النظر وغطاء ألقي على عيون أقوام لكان ينبغي أن يكون في هذا وحده الكفاية وما فوق الكفاية (20).

ونسأل الله تعالى التوفيق.

وقال ابن فارس:

"باب القول على أنّ لغة العرب

هل يجوز أن يحاط بها؟

قال بعض الفقهاء: "كلام العرب لا يحيط به إلا نبي".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير