تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهذا كلام حريٌّ أن يكون صحيحًا. وما بلغنا أنّ أحدًا ممن مضى ادعى حفْظ اللغة كلها. فأمّا الكتاب المنسوب إلى الخليل وما في خاتمته من قوله: "هذا آخر كلام العرب" فقد كان الخليل أورع وأتقى لله جلّ ثناؤه من أن يقول ذلك" (21).

ويظهر أنّ هذا كلام يصح في جانب اللغة ومفرداتها ومعجمها، أمّا النحو فإن معانيه محصورة تدرك بالفطرة، يعرفها المتعلِّم وغيره، وإن تفاوت الناس في مدى التوفيق في وضعها في مواضعها ومدى تحقيقها غرض المتكلِّم، وهو ما يعبَّر عنه بمطابقة الكلام مقتضى الحال، وهو سر البلاغة، وثمرة النحو التي يتفاوت أهل البيان في تحقيقها. فالمعاني النحوية محدودة بالإمكان إدراكها، وحصرها من خلال تتبُّعها في أبواب النحو، وتتبُّع المعاني في المادة النحوية، إضافة إلى إمكان إدراكها بالفطرة، بخلاف المعاني اللغوية التي لا يمكن إحصاؤها وحصرها، ولا يبعد عن هذا قول أبي عمرو بن العلاء: "ما انتهى إليكم مما قالته العرب إلا أقلّه، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير" (22).

يتكون الكلام لدى منشئه بتكوين المعاني الإضافية، تتبعها المعاني الوظيفية، وسبيل المخاطب أو المتلقِّي إلى فهم الكلام إدراك المعاني الوظيفية أولاً، ثم الإضافية ثانيًا. المتكلم وظّف المعاني الإضافية لنقل فكرته والمعنى الذي يقصد إليه، في حين جعل المتلقِّي المعاني الوظيفية (الوظائف) مفاتيح لإدراك المعنى الذي يريده (المعنى الإضافي).

ويمكن لنا أن نقرِّب ما نريد مقالته برسم مشجَّرة أو مشجَّرتين توضِّح لنا ما يتكوّن منه المعنى النحوي، وصنفاه، والعلاقة بينهما، من خلال تركيبين بسيطين، يبيّن تشجيرهما إمكان تعدد المعاني النحوية على الموضع الواحد، واجتماعهما إذا لم تتناقض أو تتعارض؛ فالتركيب الأول من فعل واسم، فعل وفاعل، والتركيب الثاني من اسمين مبتدأ وخبر:

ويمكن إيضاح النوعين من المعاني بالنظر في المشجَّرتين السابقتين، مع العلم أنّ المتكلم يتكوّن المعنى النحوي الإضافي المراد في ذهنه، فيستدعي المعاني النحوية الوظيفية التي تعبِّر عنه؛ فالمعنى الإضافي سابق في التكوين والوجود لدى المتكلم أو منشئ الكلام، والمعنى الوظيفي تالٍ متأخِّرٍ، في حين أنه لدى المتلقِّي بالعكس؛ إذ ينظر في المعاني الوظيفية أولاً لتهديه إلى المعاني الإضافية التي قصد إليها المتكلم أو منشئ الكلام، والرسم التالي يوضح العمليتين لدى الطرفين:

قبل الدخول في الموضوع لا بدّ من تقريب مسلَّمات، وحدِّ حدودٍ ترسم معالم للموضوع، ومنها تعرُّف مكوِّنات الكلام (الأصوات، الكلم، الأبنية، الأدوات، التراكيب، السياقان: المقامي والمقالي، مقاصد المتكلِّم) وهذه المقوِّمات لا تكون إلا بعد أن يستقر المعنى في ذهن المتكلم، فيحتاج لإبرازه وإبانته.

ودلالة الألفاظ (تابعة لقصد المتكلم، وإرادته، ونعلم أنّ المتكلم حيث جعل "إنْ" شرطية، لم يقصد جعلها غير شرطية، وعلى هذا فـ"عبد الله" إن جُعِل علَمًا على شخصٍ كان مفردًا، وإن قُصِد به النسبة إلى الله (تعالى) بالعبودية، كان مركَّبًا؛ لدلالة أجزائه على أجزاء معناه" (23)، ولابن القيِّم كلام جيِّدٌ في مسألة "الألفاظ بالنسبة إلى مقاصد المتكلِّمين" (24).

«ومن الدعاوى الباطلة تجريد اللفظ عن القرائن بالكلية والنطق به وحده؛ لتتبادر منه الحقيقة عند التجرد، وهذا الفرض هو الذي أوقع في الوهم؛ فإنّ اللفظ بدون القيد والتركيب بمنزلة الأصوات التي ينعق بها لا تفيد فائدة، وإنما يفيد تركيبه مع غيره تركيبًا إسناديًّا يصح السكوت عليه، وحينئذ يتبادر منه عند كل تركيب بحسب ما قيّد به فيتبادر منه في تركيب ما لا يتبادر منه في تركيب آخر، فإذا قلت: "هذا الثوب خطته لك بيدي" تبادر من هذا أنّ اليد آلة الخياطة لا غير، وإذا قلت: "لك عندي يدٌ الله يجزيك بها" تبادر من هذا النعمة والإحسان» (25). وقال: «اللفظ المفرد لا يفيد بإطلاقه وتجرُّده شيئًا البتة، فلا يكون كلامًا ولا جزء كلام فضلاً أن يكون حقيقةً أو مجازًا. ومعلوم أنّ التركيب الإسنادي تقييدٌ له، وإذا رُكِّب فُهِم المراد منه بتركيبه» (26). وقال: «تجرُّد اللفظ عن جميع القرائن الدالة على مراد المتكلِّم ممتنعٌ في الخارج، وإنما يقدِّره الذهن ويفرضه، وإلا فلا يمكن استعماله إلا متقيَّدًا بالمسند

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير