وإذْ لمَّتي كَجَناحِ الْغُرابِ * تُرَجَّلُ بِالْمِسْكِ والْعَنبَرِ
فَغَيَّرَ ذلِكَ ما تَعلَمينَ * تَغَيُّرَ ذا الزَّمَنِ الْمُنكَرِ
وأنتِ كَلُؤْلُؤَةِ الْمرْزبانِ * بِماءِ شَبابِكِ لم تُعصَري
قَريبانِ مَرْبَعُنا واحِدٌ * فَكيفَ كَبرتُ ولم تَكبري؟
الأستاذ اللامع / " البدر الطالع "
شيء عظيم، (ما شاء الله) قد أدركتَ جلَّ المسائل، ولم تبقَ إلاَّ مسألة يسيرة، أسأل الله الكريم أن يُعلِّمنا، وأن يزيدنا فهمًا، إنه على كلِّ شيءٍ قدير.
إذا قلتَ: " علمتُ غيرَ ذلك "، أليست كلمة " غيرَ " مفعولاً به للفعل " عَلمَ "، حيث وقع عليها العلم.
فكذلك تقدير الجملة " علمتُ لزيدٌ قائمٌ "، وعلمتُ غيرَ ذلك مِن أمورِه ".
الفعل " علمتُ " تسلَّط على معموله " غيرَ " بدون واسطة، فلو كانتِ الجملة هكذا، لقلنا إنَّ كلمة " غيرَ " مفعولٌ به للفعل " عَلمَ "، على هذا التقدير.
أمَّا الجملة التي بين أيدينا، فالكلمة " غيرَ " معطوفة على محلِّ معمول الفعل " عَلمَ "، وهو جملة " لزيدٌ قائمٌ "، التي تتكوَّن من مبتدأ وخبر، وقد سدَّت مسدَّ مفعولي الفعل " عَلِمَ "، فمحلها نصب بالفعل " عَلمَ ".
لاحظ أنَّ كلمة " غيرَ " ليست معطوفة على كلمة " قائمٌ "، لأنَّ تقدير الجملة لا يتَّزن بذلك، فلا يمكن أن تقول: علمتُ لزيدٌ قائمٌ، ولزيدٌ غير ذلك، هذا المعنى غير صحيح.
أرأيتَ إذا قلتَ: " زيدٌ مجتهدٌ وفاضلٌ "، في هذه الجملة كلمة " فاضلٌ " معطوفة على الخبر، وهو كلمة " مجتهدٌ "، وعليه يمكنك أن تقدِّر الجملة فتقول: زيدٌ مجتهدٌ، وزيدٌ فاضلٌ، والمعنى صحيح.
أمَّا مثالك: " ظننتُ لزيدٌ قائمٌ ومؤدبًا "، فهي مثل: علمتُ لزيدٌ مجتهدٌ وفاضلٌ ".
فكلمة " مؤدبًا " معطوفة على الخبر، وهو كلمة " قائمٌ "، والتقدير: " ظننتُ لزيدٌ قائم، وظننتٌ لزيدٌ مؤدبٌ ".
لاحظ أنك أعدتَ حين أردتَ التقدير، أعدتَ ذِكر العامل، وهو الفعل " ظنَّ "، وأعدتَ أيضًا ذِكر معموله الأول وهو كلمة " زيدٌ "، لأنَّ المعنى لا يمكن أن يتَّزن على الاكتفاء بذكر العامل فقط، فلا يمكن أن تقول: وظننتُ مؤدبًا.
فهنا كلمة " مؤدبًا " ليست معطوفة على المحل، وهو جملة " لزيدٌ قائمٌ " بل هي معطوفة على الخبر، لذلك قلتُ: وجب الرفع.
والآن، سأذكر ثلاث جُمَل، توضِّح العطف على المحلّ:
" عَلمتُ لزيدٌ فاضلٌ، ومكانَ إقامتِه "، والتقدير: علمتُ مكانَ إقامتِه.
" عَلمتُ لزيدٌ فاضلٌ، ومَوعدَ سَفرِه "، والتقدير: علمتُ مَوعدَ سَفرِه.
" عَلمتُ لزيدٌ فاضلٌ، وحالتَه الصحيِّة "، والتقدير: علمتُ حالتَه الصحيِّة.
يتَّضح جليًّا أنَّ العطف على محلِّ الجملة " لزيدٌ فاضلٌ "، وليس على كلمة " فاضلٌ ".
أما قول كثير:
وما كنتُ أدري قبلَ عزَّةَ ما البكا * ولا موجعاتِ القلبِ حتَّى تولَّتِ
نريد الآن، أن نطبَّق تقدير البيت، أليس التقدير: ما كنت أدري ما البكا، وما كنتُ أدري موجعاتِ القلبِ.
فأنتَ هنا، أعدتَ العامل فقط، وهو الفعل المسبوق بـ" ما " النافية ": أدري " والمعنى يتَّزن بذلك.
ولذلك نُصِبت كلمة " موجعاتِ " لأنها معطوفة على محل جملة " ما البُكا "، وليست معطوفة على كلمة " البكا "، لأنَّ الشاعر لو أعاد الاستفهام مرةً أخرى وقال: " وما موجعاتُ القلبِ " لارتفعت كلمة " موجعاتُ " على الخبر، وصارت جملة " ما موجعاتُ " معطوفة على جملة: " ما البكا "، ولكنه لم يفعل ذلك.
فإن قلتَ: فما معنى وجود " لا " النافية، قبل كلمة " موجعاتِ "؟
قلتُ: أراد " كثير " أن ينفي شعوره بـ" موجعاتِ القلبِ "، قبل أن تتولَّى عنه محبوبتُه عزَّة "، فقد استخدم الفعل " أدري " منفيًّا بكلمة " ما النافية ابتداءً، فقال: " وما كنتُ أدري قبل عزَّةَ ما البكا؟ "
وعندما عطف كلمة " موجعاتِ " أعاد النفي للتأكيد، فكلمة " لا " النافية لا تقوم مقام " ما " الاستفهامية، فلا يمكن أن يكون تقدير البيت: وما كنتُ أدري ما موجعاتُ القلبِ؟ ".
والتقدير الصحيح: وما كنت أدري موجعاتِ القلب حتى تولَّت ".
وأخيرًا، لو لم يكرِّر شاعرُنا ذكر كلمة " لا " النافية، وقال: " وما كنتُ أدري قبلَ عزَّةَ ما البكا، وموجعاتُ القلبِ حتَّى تولَّتِ "، لكانت كلمة " موجعاتُ " معطوفة على كلمة " البكا " وكان حقها الرفع، لأنها معطوفة على خبر، ويكون التقدير: وما كنتُ أدري قبلَ عزَّةَ ما البكا، وما كنتُ أدري ما موجعاتُ القلبِ حتَّى تولَّتِ ".
فهنا يتَّضح أننا قد أعدنا ذكر العامل ومعموله الأول، والله أعلم.
ختامًا، أرجو أن أكون قد وفِّقتُ في إيضاح الفرق بين العطف على الخبر، والعطف على محلِّ الجملة، وبالله التوفيق.
دمتَ في عزٍّ وطاعة الرحمَن، مع عاطر التحايا
¥