1 - من المعلوم أن المجال الأكبر والأوسع لتطبيق نظرية الحقيقة والمجاز هو كلام لا يُمكن معرفة الوضع أو الاصطلاح الأول فيه. فالألفاظ التي يستعملها شعراء الجاهلية وكثير من كلام الله ورسوله والصحابة وجل كلام جل الناس لا يُمكن ان يُجعل من الجنس الذي يُعلم فيه الوضع الأول أو الاصطلاح الأول لا قطعاً ولا ظناً، وأن محاولات تحديد هذا المعنى الأول –عندنا-محاولات بائسة يائسة تفتقد لأسس المنهج العلمي. وإذاً فلا يُعترض بلفظة كالتي ذُكرت على إبطال نظرية فُسر بها كلام الله وكلام رسوله وكلام الناس وملأت الدنيا عبر أحد عشر قرناً .. فبقطع النظر عن إمكان معرفة الوضع والاصطلاح الأول أحياناً فإن هذا لا يقدح في بطلان ركام النظرية التاريخي لأنه وببساطة كل الذين نظروا لقضية القسمة لم يحصروا كلامهم وتنظيرهم فيما يمكن معرفة الوضع والاصطلاح الأول فيه بصورة قاطعة ولو فعلوا لما ناقشناهم النقاش السابق ولناقشناهم النقاش التالي الذي سنناقشه لخزانة الأدب.
الخلاصة: غاية ما يُثبته ويمكنه الاحتجاج به عليه: أنه إذا علم الاصطلاح الأول قطعاً فما الذي يمنع من إجراء قسمة الحقيقة والمجاز .. وهذا ما سنناقشه فنقول:
2 - ليس لإجراء القسمة في مثل هذه الألفاظ إلا واحداً من معنيين أو هما جميعاً:
المعنى الأول: أنك تريد إجراء قسمة الحقيقة والمجاز بما يستتبعها من أحكام وقوانين فتقول: تُستعمل لفظة الكمبيوتر في كلام الناس اليوم للدلالة على عدة معاني (مثلاً):
المعنى الأول: الحاسب الآلي.
المعنى الثاني: الدماغ والعقل.
المعنى الثالث: العلم المعين الذي يتمكن متعلمه من التعامل مع الحاسب الآلي.
ثم تقول: قد علم أن نشأة هذا اللفظ أولاً كانت للدلالة على جهاز الحاسب الآلي ثم استعمل بعدُ للدلالة على باقي المعاني.
ثم تقول: لفظ الكمبيوتر حقيقة في الدلالة على الجهاز المعين مجاز في الدلالة على باقي المعاني.
ثم تقول: إذ وردت لفظة الكمبيوتر متجردة عن القرائن تُصرف للدلالة على الجهاز المعين ولا تُحمل عنه إلى غيره إلا بقرينة صارفة .. فلو رأيت ورقة كُتب فيها: ((شغل الكمبيوتر)) لا أعلم أي المعاني أرادها كاتبها فتُحمل هذه اللفظة على الجهاز المعين حتى تقوم قرينة صارفة.
ونقول إذا أردت هذا بمطالبتك بإجراء القسمة في هذا الجنس من الألفاظ فنقول: نحن نرى أن هذا أيضاً باطل مطلق والسبب:
إنك بهذا وإن نجوت من المستوى الأول السابق ذكره من مستويات نظرنا في إثبات فساد القسمة (وهو ضعف الأسس العلمية لضبط الوضع الأول والاصطلاح الأول) = فلم تنج من المستوى الثاني وهو أن هذا منهج فاسد في تفسير كلام المتكلم؛ إذ يجعل هذا القانون حكماً على مراد المتكلم وقاضياً بأنه أراد معنى معين قد لا يكون خطر له ببال. وهو شهادة بغير علم كان يحسن الوقوف عنها طلباً للقرائن المفسرة.
فالذي نراه: أنه لا فرق بين معرفة الوضع الأول قطعاً أم لا = في أنه لم يعد يصلح تفسير كلام المتكلم عبره بعدما ثبت استعمال اللفظ في معاني غير الوضع الأول، فما دام ثبت استعمال اللفظ في معاني غير الوضع الأول وجب التوقف عن تحديد أن المتكلم أراد أحد المعاني حتى نجد من القرائن ما يُعين على معرفة هل أراد المتكلم المعنى الأصلي أم واحداً من المعاني الحاصلة بعده، فإن لم تُسعف القرائن المفسر بالمعنى الذي أراده المتكلم أو شئ منه وجب عليه التوقف عن القول بغير ما علمه من مراد المتكلم ويكون ما خفي عليه من المتشابه النسبي الذي يخفى لبعض الناس ويظهر لبعضهم.
والحالة الواحدة التي يُحمل فيها كلام المتكلم على معنى بعينه من غير وجوب بحث عن القرائن هي في حالة استعمال المتكلم للفظ يُعلم قطعاً أنه لا يستعمل إلا في معنى واحد.
أما كل لفظ استعمل في أكثر من معنى فسواء علمنا المعنى الأول (كالكمبيوتر) منهم أم لا (كجل الكلام) = فلا يجوز القول بأن اللفظ يتجرد عن القرائن أو أن يُحمل على معنى معين هو الأصلي الأول في حالة عدم الوقوف على القرائن.
المعنى الثاني لطلبك إجراء القسمة في مثل هذه الألفاظ .. هو أنك تريد إجراءها مع تجريدها عن قانون تفسير كلام المتكلم بأن تُسمي المعنى الأول حقيقة والثاني المجاز استناداً لمعرفة بدء الاصطلاح.
ونقول: أنه حتى هذا لا يصلح أخانا الحبيب. فأنت تريد أخذ مصطلح يطلق على نظرية كاملة فتُطلقه على جزء من أجزاء هذه النظرية تجرده عنها.
وهذا من أسباب الفساد والاشتباه، وإذا كنا لن نستخدم القانون الذي لأجله سمي هذا اللفظ حقيقة وهذا اللفظ مجاز فلماذا نستعمل هذين اللفظين (؟؟)
بل لا يكون استعمالهما –بعد إفراغهما من القانون-إلا ضرباً من اللغو ..
ثم نقول: إن الصواب الذي لا مدخل للتوهم والفساد فيه: أن يقال: ما كان من هذا الجنس من الألفاظ قد عُلم المعنى الأول الذي استعمل فيه ثم علم أنه استعمل في معاني أخر = أن يقال: هذا من قبيل النقل والتطور الدلالي فيقال: وضع هذا اللفظ والصواب أن يقال: (معنى هذا اللفظ في الطبقة الأولى التي تكلمت به) هو: كذا ..
ثم تم نقله ليدل على: كذا، وكذا ..
مثال: القهوة في لسان العرب الأول هي الخمر، ثم نقلت في الألسنة المتأخرة للدلالة على المشروب المعروف.
مثال (2): المكروه في اللسان الأول هو المبغض حرمه الشارع أم بغضه ولم يصل به لدرجة التحريم ثم نقل في ألسنة بعض الأصوليين للدلالة على المبغض الذي لم يحرم.
وهذا المنهج في التعامل مع هذا الجنس من الألفاظ الذي علم معناها الأول قطعاً = فيه ثلاث فوائد:
الأولى: انطباقه على الصورة الحاصلة من غير زيادة ولا نقصان.
الثانية: بعده عن الاشتباه والتوهم الحاصل من إطلاق لفظ الحقيقة والمجاز.
الثالثة: أنه لا يخرج عن وصف الظاهرة ليحشر نفسه في تفسير كلام المتكلم ويُطالب بحمل كلام المتكلم .... إلخ هذا القانون الفاسد ..
وختاماً: فثم وجه آخر من التحليل لكثير من الكلمات الحادثة كالكمبيوتر وإثبات كونها تعود لكونها تعديد مضافات خارجية للفظ سابق ولكنه ألصق بالبحث الدلالي العام منه بقضية المجاز ..
.
¥