تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ[بكر الجازي]ــــــــ[20 - 07 - 2009, 09:46 ص]ـ

نأتي الآن إلى صلب الاستشكال فنقول:

لنظرنا في مسألة المجاز وفساد القسمة مستويين أساسيين:

المستوى الأول: فساد القول بالوضع الأول، وغيبيته، وما ورائيته، وعدم وجود الدلائل العلمية الظاهرة الدلالة على كون هذا اللفظ وضع لهذا المعنى، وبطلان الزعم أن قوماً من العقلاء اجتمعوا واصطلحوا على أن يسموا هذا بكذا , وهذا بكذا , ويجعل هذا عاماً في جميع اللغات؛ وهذا القول لا نعرف أحداً من المسلمين قاله قبل أبي هاشم الجبَّائي.

.

لم يثبت فساد القول بالوضع الأول، وقد ذكرتُ لك في مداخلة سابقة أنك بين أمرين:

1. إما أن تقول إن العرب وضعت هذا الاسم بإزاء هذه المعاني وضعاً واحداً.

2. وإما أن تقول إن وضعه بإزاء معنى معينٍ كان سابقاً على وضعه بإزاء المعنى الآخر.

فإن صرتَ إلى الأول كان هذا تحكماً منك لا دليل عليه، كما أنك تدعي أن قولهم بالوضع الأول والوضع الثاني لا دليل عليه، وإن صرتَ إلى الثاني فقد قلت بالمجاز. والاعتذار لنفي المجاز بأننا لا نعرف الوضع الأول من الوضع الثاني لا يقدح في أصل المجاز، بل إن استعمال هذا اللفظ بإزاء المعاني المتعددة يقطع بوجود المجاز. ذلك أنا – من حيث واقع اللغة- نحيل أن تكون العرب وضعت هذه الألفاظَ بإزاء مسمياتها هكذا جزافاً، أو أن تكون وضعتها بإزاء مسمياتها دفعة واحدة، وإذا ما ثبت أننا نقطع بوجود وضعٍ أول سابق، ثم وضع آخر لاحق لعلاقة تربط السابق باللاحق كما في لفظ "كمبيوتر" و"راديو" و"بلدوزر" و"زمبرك" في عاميتنا المحكية، أمكننا أن نتصور أمراً كهذا في لغة العرب، بل نجزم بثبوته.

أما غيبية الوضع الأول وماورائيته، وعدم وجود الدلائل العلمية على كون هذا اللفظ لهذا المعنى، فليس كذلك، بل الأمر مرهون بغلبة الظن، وهي كافية في هذا الباب وليست حدساً ولا تخمينا، فإننا نحمل اللفظ عند تجرده من القرائن على ما هو أغلب وأكثر في استعمال العرب، إلا أن ترد قرينة تصرفه عن المعنى الذي هو أغلب وأكثر في استعمال الناس.

المستوى الثاني: بُطلان نظرية الحقيقة والمجاز كأداة لتفسير كلام المتكلم، كأن يزعم الزاعم أن اللفظة التي استعملت في أكثر من معنى إذا وردت في الكلام متجردة عن القرائن فإن الأصل (هكذا زعماً وتألياً على المتكلم) أنه أراد معنى معين منها بلا دليل دال على أن المتكلم أراد هذا سوى أنهم أراحوا أنفسهم لما لم يجدوا قرينة (في زعمهم) فحملوا كلامه على أنه أراد معنى معين هو المعنى الحقيقي عندهم. وأكبر من ذلك ضعف بحثهم عن القرائن أصلاً وقولهم بأن هذا المعنى المتبادر هو ظاهر اللفظ الذي يجب التمسك به والوقوف عنده حتى تأتي القرينة الصارفة.

.

مثبتة المجاز لم يزعموا هذا تألياً، بل عرفوا هذا من واقع اللغة، من حيث إن التوسع في استعمال اللفظ في أكثر من معنى – عند التحقيق- لا يأتي هكذا جزافاً.

لماذا نستخدم كلمة كمبيوتر في الدلالة على الإنسان الذكي مثلاُ دون الإنسان الأحمق البليد، هل توسعنا في استعمال هذه اللفظة هكذا؟ أم أننا لاحظنا وجه الشبه بين سعة ذاكرة الكمبيوتر، وسرعة إجراء العمليات فيه على وجه عجيب متقن، فاستعرنا هذه اللفظة لندل بها على الفطن الذكي السريع البديهة؟

لماذا نستخدم كلمة "راديو" في الدلالة على كثير الكلام؟ هل توسعنا في استعمال اللفظ هكذا جزافاً؟ أم أننا لاحظنا وجه الشبه بين الراديو في الإذاعات تبث ليل نهار، بلا كلل ولا ملل، فاستعرنا هذه اللفظة في الدلالة على كثير الكلام الذي لا يسكت إذا ما ابتدأ الحديث؟

ولذلك فإن كلمة "كمبيوتر" أو "راديو" إذا ذكرت في لهجاتنا المحلية هكذا مجردة، انصرفت أذهان أهل اللغة إلى الحاسب الآلي وإلى المذياع، وإنكار هذا مباهتة، فينبغي أن نحمل كلام المتكلم عليها، ونقول إن المتكلم أراد هذا المعنى، لأنه لو أراد غيره لجاء بما يصرف هذه اللفظة عن معناها في معهود الناس وتصرفهم في الكلام إلى معنى آخر. وليس هذا تألياً كما تظن، ولا ضعفاً في البحث عن القرائن، بل هو من باب إنزال كلام المتكلم على معهود أهل اللغة. فنحن نحمل كلام المتكلم على هذا المعنى دون ذاك بإنزال كلامه على معهود الناس في الألفاظ ومعانيها، وما يتبادر إلى أذهانهم منها بحكم العادة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير