تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أما المستوى الأول فقد نجوتُ منه، إذ أرجعتُ هذا إلى ما هو أغلبُ في استعمالِ العربِ، فنحن عندما نقول إن الحقيقة استعمال اللفظ فيما وضع له أولاً في اللغة أو في اصطلاح التخاطب، أو نقول: كل كلمة أريد بها ما وقعت له في وضع واضع وقوعاً لا يستند فيه إليه غيره، وعندما نقول إن المجاز هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له أولاً في اللغة أو في اصطلاح التخاطب، أو نقول: هي كل كلمة أريد بها غير ما وقعت له في وضع واضع لملاحظة بين الثاني والأول، لا نعني بهذا بالضرورةِ أننا عرفنا الوضع الأول أو الاستعمال الأول الذي سميناه "حقيقة" قطعاً، والاستعمال الثاني الذي سميناه مجازاً قطعاً، بل نقول:

1. إن استعمال هذه اللفظ المعين في كل المعاني التي استعمل فيها على السواء، وبلا أسبقية أحد هذه المعاني على الآخر، أمر يحيله واقع اللغة، بل الغالب على الظن إن لم نقطع أن العرب استعملت هذا اللفظ بإزاء أحد هذه المعاني أولاً، ثم في معنى آخر إما على وجه المشابهة أو المضادة أو الاقتران الزماني أو المكاني. مثال ذلك: أن الأغلب في واقع اللغة أن العرب لم تستعمل لفظ "الغائط" في الدلالة على المكان المنخفض، والخارج المستقذر على السواء، بل الأرجح أنه كان بإزاء أحد هذين المعنيين أولاً، ثم استعمل في الآخر لارتباط الخارج المستقذر بالمكان المنخفض، أو لارتباط المكان المنخفض بالخارج المستقذر. وكذلك الأمر في الأسد والحمار وغيرها، وما ذكرناه من الألفاظ التي تتداولها العامة خير مثال على ذلك كما لفظ "كمبيوتر" و"راديو". إذن فقد ثبت وجود المجاز في اللغة، أما أن هذا المعنى هو الحقيقي والآخر هو المجازي، فقد يكون محل خلاف بين أهل اللغة وعلمائها. المهم أن أصل التقسيم إلى حقيقة ومجاز في كل لغات الدنيا، حقيقة لا مراء فيها، وها قد أثبتُّه لك في ألسنة العامة ولهجاتها التي صرَّحتَ – غيرَ موفَّقٍ- بإنكار المجاز فيها.

2. إذا ما ثبت لنا وجود أصل التقسيم، أمكننا بعد ذلك أن نصف بالحقيقة المعنى الذي يتبادر إليه الذهن عند إطلاق اللفظ، ذلك أن هذا المعنى لمّا كان أقربَ إلى الذِّهن وألصق به والمتبادر إليه عند إطلاق اللفظ، فلعلَّه هو الحقيقة فيه، فنقول – عندها- إن هذا المعنى أولى باللفظ عند التجرد من القرائن، ثم نصف بالمجاز المعنى الذي لا يتبادر إليه الذهن عند إطلاق اللفظ، ونقول إن هذا المعنى غير حقيق باللفظ مجرداً لما كانت أذهانُ العامةِ لا تنصرفُ إليه عند ذكر اللفظ مجرداً.

3. وليس يهمنا بعد هذا أن أصل الوضع كان بخلاف ذلك، أو أن هناك وضعاً سابقاً على ما سميتَه أنت حقيقةً، وأن هذا الذي تزعمه حقيقةً إنما هو مجاز لوضع سابق، فالألفاظ المنقولة على سبيل المثال إنما سميت منقولة لأنها أصبحت أشهر في المعنى الجديد، وأقرب إلى الذهن من المعنى القديم الذي كان لها. فيصبح ما كان حقيقة لغوية مجازاً عرفياً، وما كان مجازاً لغوياً حقيقة عرفية!

4. ومرة أخرى، ليس هذا تألياً ولا دعوى لا دليل عليها، بل هو من باب إنزال كلام المتكلم على معهود الناس وتصرفهم في الألفاظ ومعانيها، وما يتبادر إلى أذهانهم منها وما لا يتبادر، وهو قول يشهد له واقع اللغة، فإن أبيت إلا أن يكون تألياً فهو تألٍ أجبرنا عليه عرف الناس ومعهودهم في الألفاظ ومعانيها، وليس لك أن تخرج عنه في خطابك للناس، أما أن تخاطب به الناس، وتطلب إليهام أن ينشطوا في البحث عن القرائن التي يفهمون بها كلامك، فهذا تكلف حملت عليه نفسك، وأبيناه نحن، فكنا بذلك أسعد منك حالاً إذ لم نلزم أنفسنا ما لا يلزم، فإما أن تخاطبنا على معهودنا، وإما أن تبقي كلامك حبيس نفسك، أو تبوح به لمن يحتمل منك هذا.

وفي هذا إبطال قولك (أن هذا منهج فاسد في تفسير كلام المتكلم؛ إذ يجعل هذا القانون حكماً على مراد المتكلم وقاضياً بأنه أراد معنى معين قد لا يكون خطر له ببال. وهو شهادة بغير علم كان يحسن الوقوف عنها طلباً للقرائن المفسرة) ...

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير