لماذا نستخدم كلمة "راديو" في الدلالة على كثير الكلام؟ هل ترانا توسعنا في استعمال اللفظ أو نقلناه أو طوَّرناه هكذا جزافاً؟ أم أننا لاحظنا وجه الشبه بين الراديو في الإذاعات تبث ليل نهار، بلا كلل ولا ملل، فاستعرنا هذه اللفظة في الدلالة على كثير الكلام الذي لا يسكت إذا ما ابتدأ الحديث؟ لماذا لم نوسع لفظ "راديو" لندل به على "القمح" أو "الشعير" أو "الأظافر"؟
ومع هذا فنحن لا ننكر أن تكون هناك تطورات دلالية لا نعرف أصلها، ولا كيف تطورت، لا علماً ولا ظناً، فنتركها كما هي، ولا حرج في ذلك كما في لفظ "القهوة".
وهذا المنهج في التعامل مع هذا الجنس من الألفاظ الذي علم معناها الأول قطعاً = فيه ثلاث فوائد:
الأولى: انطباقه على الصورة الحاصلة من غير زيادة ولا نقصان.
الثانية: بعده عن الاشتباه والتوهم الحاصل من إطلاق لفظ الحقيقة والمجاز.
الثالثة: أنه لا يخرج عن وصف الظاهرة ليحشر نفسه في تفسير كلام المتكلم ويُطالب بحمل كلام المتكلم .... إلخ هذا القانون الفاسد ..
وختاماً: فثم وجه آخر من التحليل لكثير من الكلمات الحادثة كالكمبيوتر وإثبات كونها تعود لكونها تعديد مضافات خارجية للفظ سابق ولكنه ألصق بالبحث الدلالي العام منه بقضية المجاز ..
.
وهذه الفوائد التي تتوهمها في منهجك خاصة، حاصلة في منهجنا (على وجه هو أتم وأحسن):
1. أنه ينطبق أيضاً عندنا على الصورة الحاصلة بغير زيادة أو نقصان، سواء كانت حقيقة أم مجازاً.
2. أنه بعد تحصُّلِ معنيي الحقيقة والمجاز في الذهن، والتحقق من وجود هذه القسمة الصحيحة التي لا يداخلها البطلان ولا يشامها في اللغات والألسنة، يرتفع التوهم والاشتباه، كما يرتفع عندك التوهم والاشتباه في فهم معنى "المكروه" بعد الوقوف عليه.
3. أننا في تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز لم نخرج عن وصف الظاهرة، بل أتتمنا وصفها، وأديناها حقها، فكنا أعدل منكم، ثم إننا نلزم – على هذا- المتكلمَ بضرورة مراعاة معهود الناس وتصرفهم في الألفاظ والمعاني ما يتبادر منها إلى الذهن وما لا يتبادر، فإن أراد المعنى المتبادر إلى أذهان الناس من اللفظ كان له أن يذكره هكذا مجرداً من أي قرينة، وإن أراد معنى آخر غير المتبادر إلى الذهن فلا بد من قرينة يعرف بها السامع مراده، فلا يرهقه ولا يتعبه في فهم كلامه، ونلزم السامع أيضاً بضرورة تنزيل كلام المتكلم على معهود الناس، فلا يحمله ما لا يحتمل من المعاني، وبهذا لا يؤتى المتكلم من سوء فهم السامع، ولا يؤتى السامع من سوء إفهام المتكلم.
4. وأزيدك فائدة رابعة هي لنا خاصة دونكم، وإنك وإن كنت زعمتها لنفسك فإن الحق أن مذهبك جردك منها، فأقول إنك بنفي المجاز تكون قد جرَّدتَ نفسك من التمتع وجمال الكلام الذي قال به مثبتة المجاز، إن قولَك في ردك على الشيخ عبد المحسن العسكر:
(قلت: الحمد لله فقد جمع نفاة هذه القسمة الباطلة بين نفي الباطل= والتمتع بهذا الحسن الذي أشار إليه الدكتور على وجه هو أتم وأحسن، وهذا الكلام من الدكتور هو أول مثال على المغالطات التي تكثر في كلام مثبتة هذه القسمة؛ فثبوت ظاهرة الاتساع في الكلام واستعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى ليس محلاً للنزاع، وبالتالي فنفاة المجاز يثبتونه ويتمتعون بما فيه من مواطن الجمال = لكنهم يرفضون تأطير هذا الاتساع وتلك الظاهرة =تحت هذه القسمة بما تحمله من قوانين = ثم هم أسعد بمواطن الجمال في الاتساع من مثبتة القسمة من وجوه أهمها: أنهم يطلبون القرينة الدالة على مراد المتكلم في كل كلام فلا يتوقفون عن تدبر الكلام لمعرفة مراد المتكلم تحت دعوى أن المعنى الأصلي هو الذي يتوقف عنده أو المعنى المتبادر، وأنه لا حاجة للبحث عن مراد المتكلم إلا إذا ظهرت قرينة تصرف عن إرادة المعنى الأصلي.
فالذي يتدبر ويتأمل ويبحث في كل لفظ عن المعنى المراد =ولا يركن إلى السهولة والتيسير الكامنين في القسمة =هو أسعد وأمتع بوجوه الجمال ومواطنه في ظاهرة الاتساع تلك، وذلك كله من جنس قول الشافعي عن سنن العرب: ((وتكلَّمُ بالشيء تُعَرِّفُه بالمعنى دون الإيضاح باللفظ كما تعرِّف الإشارةُ ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها لانفراد أهل علمها به دون أهل جَهَالتها))
¥