تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وزعمَك أنك جمعت بين نفي المجاز والتمتع بجمالِ الكلام ومواطنه فيه خداع وتضليل مكشوف ليس من الحقيقة في شيء، إنك تنحل نفسك صفة ليست لك ولا لمذهبك.

أين التمتع بحسن الكلام لولا المجاز والاستعارة؟

انظر إلى قول الشاعر:

أدميت باللحظات وجنته ... فاقتص ناظره من القلب

وقول آخر:

إلى الله أشكو عشق ظبي مهفهف ... رماني وما لي من يديه خلاص

جرحت بلحظي خده وهو جارح ... بعينيه قلبي والجروح قصاص

حيث كنّى الأول عن احمرار وجنتي محبوبته خجلاً بـ"الإدماء"، وكنى عن وقوع محبتها في قلبه بقوله "فاقتص ناظره من القلب"، ثم سمى هذا قصاصاً، أين يكون الجمال لو قلتَ على رأيك: استخدمت العرب الإدماء في نزول الدم، واستخدمته أيضاً في احمرار الوجنتين؟ (يا سلام)

أما الآخر فيزعم أن عينيه قد جرحتا خدي محبوبته، ويزعم أن عينيها جرحتا قلبه، مع أن الأمر لا جرح فيه ولا دماء، الجمال هنا يكمن في تسمية احمرار الخدين جرحاً وليس بجرح على الحقيقة، وفي جعل العيون تجرح القلوب وليس هي بالجارحة على الحقيقة، فنعجب كيف ربط الشاعر بين هذه المعاني، وكيف انقدح له استعمال هذا اللفظ فيما ليس على وجه من الشبه عجيب. ثم قد ينشأ بعد هذا أن نقول: فلانة تدمي وجنتيها عيون الناظرين كناية عن خجلها، فأين يكون الجمال لو قلنا بمذهبك: إن العرب استخدمت لفظ "الجرح" فيما يكون منه نزول الدم، وفيما يكون منه احمرار الوجنتين أو الخدين خجلاً، وفيما تكون به رقة القلوب لدى رؤية الحبيب؟!

وانظر إلى قول الشاعر:

رمتنى بسهم ريشه الكحل لم يضر ... ظواهر جلدي وهو للقلب جارح

أين مكمن الجمال في هذا البيت؟ أليس في جعله الطرْف سهماً وليس هو بسهم على الحقيقة؟ ذلك أن السهم يدل على ما هو معروف متبادر في الأذهان، فتوسع الشاعر في معناه أو نقله أو طوره للدلالة على معنى آخر هو الطرْف بجامع الإصابة وإلحاق الضرر، وهذا سر الجمال والحسن في البيت: أنه استعمل لفظ "السهم" في غير ما هو معروف ومتبادر إلى الذهن مع قرينة تصرفه إلى هذا المعنى الجديد.

أما أنت فتقول: استعمل الناس أو العرب أو أهل اللسان في حقبة ما "السهم" في معناه "ما يعد للرمي"، واستعملوه في "طرف العين".

وانظر بعد ذلك إلى قولنا في لهجتنا العامية إضافة إلى ما سبق ذكره:

1. "فلان فيوزاته ضاربة" أو "فلان فيوزاته محروقة"، كلمة (فيوز) الذي هو بمثابة الأمان في الدوائر الكهربائية، استعملناه في الدلالة على الرجل الذي لا يفهم، أو لم يعد قادراً على الفهم لنعاسٍ أو لكسلٍ ألم به، أو لجنون، على ضرب من التجوز الذي علاقته المشابهة، حيث شبهنا عدم قدرة الرجل على الفهم، بتعطل الدائرة الكهربائية بسبب احتراق الفيوز، وليس للرجل منا لا فيوزات ولا مقاطع كهربائية، ولذلك تجد البهاء والحسن والرونق في إعطاء هذا اللفظ معنىً لم يكن له فيما يتبادر إلى أذهان الناس عند إطلاقه.

2. "فلان مشرِّت" أو "ضارب شورت"، مأخوذ من لفظ short بالإنجليزية، حيث نشبه الرجل الذي لم يعد قادراً على الفهم بالدائرة الكهربائية التي تتعطل بسبب وجود شورت كهربائي فيها.

3. "فلان بطارياته خالصة"، في الدلالة على نفس معنى "فيوزاته ضاربة" أو "فلان مشرت"، فهل عند أحدنا بطاريات تنتهي، وهل هي قابلة للشحن أم غير قابلة؟

4. "فلان بصلته محروقة" أي يتعجل في أموره كلها ولا يتأنى، مأخوذ ممن يستعجل إنضاج البصل فيزيد من اشتعال النار تحت المقلاة، فيحرق البصل، فهل عند أحدنا بصلة توصف بأنها محترقة على الحقيقة؟

5. "الجو مكهرب بينى وبين فلان"، أي بيننا خلاف، أو علاقتنا متوترة، مع أن الكهرباء التي نعرفها لا مدخل لها في العلاقات بين البشر، ولكن لعلنا شبهنا توتر العلاقات بمن يصاب بصدمة كهربائية.

تجد السبب في البهاء والحسن، وتجد موطن الإعجاب والجمال في هذه التعبيرات إنما هو في استعمال الألفاظ في معانٍ لم تكن لها لعلاقة تربط فيما بين هذه المعاني.

أما أنت فتقول في كل هذا على منهجك: استعمل هذا اللفظ في هذا المعنى وفي ذاك، أو تقول استعمل هذا اللفظ في الطبقة المتكلمة به ليدل على هذا المعنى، ثم تم نقله إلى معنى آخر. (يا سلام)

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير