تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهذا أيها الإخوة من المغالطات التي لم يفطن إليها صاحب السؤال، فمهما جئتموه بأمثلة وشواهد، ومهما بحثتم ونقبتم وأفضتم في ذكر الشواهد، فسيقول لكم في نهاية المطاف: إن لفظ الأسد في هذا السياق جاء ما يدل على أن المقصود به الحيوان المفترس، وجاء في سياق آخر ما يدل على أن المقصود به غير الحيوان المفترس، أي: أن السياق هو الذي يحدد المعنى المقصود بلفظ "الأسد"، ولا داعي للقول بالحقيقة والمجاز من أصله، بل إن المجاز نظرية باطلة في أصلها، ولا تصلح لتفسير كلام المتكلم.

والوجه في إلزامه أن يقال له: إن كون السياق يحدد المعنى المقصود باللفظ لا يعني بطلان القول بالمجاز، ولبيان ذلك نقول: دعنا من كلام العرب الأولين الآن، ولننظر في الكلام الذي نتكلم به، هل يصح لك اعتراضك هذا؟

لفظ "الكمبيوتر" مما لا شك فيه عند القاصي والداني أنه وضع للدلالة على الحاسب الآلي. فإذا ورد في كلام الناس حملناه على هذا المعنى باتفاق. فإذا قال القائل: رأيتُ كمبيوتراً لا مثيل له. حملنا هذا على الحاسب الآلي.

أما إن قلنا في فلان: هو كمبيوتر، في الدلالة على فطنته وذكائه، كان هذا قرينة على أن المراد بلفظ "كمبيوتر" هو غير ما وضع له، وغير ما تعارفه الناس وعهدوه، وأنه استعير في الدلالة على ذكاء الرجل وسرعة خاطره على وجه المشابهة.

فلا بد هنا من سياق يكون فيه اللفظ، والسياق يحدد المعنى المقصود باللفظ حقيقة كان أم مجازاً.

وعليه فإذا طالبنا منكر المجاز بشاهد من كلام العامة نذكر فيه لفظ الكمبيوتر نريد فيه الحاسب الآلي، ويكون كلامنا عارياً عن القرينة اللفظية، عرفنا أنه مغالط، وحكمنا بجهله:

1. لأننا نعلم أن لفظ "الكمبيوتر" موضوع للدلالة على الحاسب الآلي، وإذا استعمل في غير هذا المعنى فلا بد من قرينة صارفة عن المعنى الأول، وعلامة معرفة بالمعنى الثاني.

2. أنه لا يوجد كلام مفهم إلا بمسند ومسند إليه، ومعلوم أن هذه الألفاظ المفردة لم توضع لتفيد معانيها في أنفسها، بل إنما ليضم بعضها إلى بعض إسناداً وتقييداً وإضافةً، وإلا لما كان بنا حاجة إلى الألفاظ المفردة. فلفظ "باب" ولفظ "دار" ولفظ "افتح" إنما وضعت ليضم بعضها إلى بعض في النطق إسناداً وتقييداً وإضافة، كأن تقول: افتح باب الدار.

وعليه فليست تُتَصوَّرُ هذا المفردات مبعثرة لا جامع لها، وإلا لم تكن بنا إليها حاجة. فأنت تضم هذه المفردات بعضها إلى بعض لتفيد السامع معنى جديداً، لا لتعرفه بمعاني هذه المفردات. هذا أمر نسلم به كما تسلمون، ونسلم أن السياق الذي يرد فيه اللفظ يحدد المعنى المقصود في أغلب الأحوال، إلا أنه ليس معنى هذا بطلان القول بالمجاز. بل لا بد للفظ من جملة يكون فيها سواء كان على معناه الحقيقي أم المجازي، وإلا لم يكن كلاماً.

3. وعليه فإن المقصود بالقرينة الصارفة عن المعنى الأول إنما هو بحسب مجاري العادات، وأعراف الناس، أي أنك إذا قلت: رأيت كمبيوتراً لا مثيل له، قلنا: إما أنك أردت الحاسب الآلي، وإما أنك أردت رجلاً ذكياً، ولما كان استعمال الناس للفظ "كمبيوتر" في الحاسب الآلي أعم وأغلب، ولم يكن في هذا الكلام من القرائن ما يصرفه عن هذا المعنى إلى غيره، فإننا نحكم بأن المقصود الحاسب الآلي. ولا يقال في الاعتراض علينا: بل أنتم استعجلتم في حمل كلام المتكلم على هذا المعنى مع أن المعنى الثاني محتمل.

لا يقال ذلك، لأن المعنى الثاني وإن كان محتملاً، إلا أن الأول أولى وأغلب، فنحمل كلام المتكلم عليه بحسب مجاري العادات، ومعهود الناس في الألفاظ ومعانيها.

المقصود إذن أن اللفظ يكون له في معهود الناس معنى معين، ولا بد لصرفه عن هذا المعنى المعهود من قرينة صارفة. أما أنه لا بد للفظ من سياق يكون فيه فهذا مما نثبته ولا ننازع فيه، وفرق ما بين السياق والقرينة واضح لا لبس فيه، وإنما اختلط الأمر على منكرة المجاز من حيث إنها لم تتميز عندهم.

والخلاصة أن أبا فهر في شبهتِه هذه يحتج لإبطال المجاز بأنه لا بد للفظ من سياق يكون فيه، وهذا السياق يعين المعنى المقصود باللفظ، وقد بينا في الرد عليه أنه لا بد للفظ من سياق حتى يكون كلاماً مفهماً، وكون السياق يعين المعنى المقصود لا يعني بطلان المجاز.

وبعبارة أخرى: كما أنه لا يجوز أن يطالبنا بمثال أو شاهد من كلام العامة ذكروا فيها الكمبيوتر يريدون به الحاسب الآلي، وكان كلامهم عارياً عن القرينة اللفظية الدالة على إرادتهم للحاسب الآلي، فكذلك لا يجوز له أن يطالبنا بشيء من ذلك في كلام العرب، لأن كون اللفظ لا بد له من سياق يكون فيه حتى يكون مفهماً شيء، وكونه حقيقة في هذا المعنى مجازاً في غيره شيء آخر. وكون السياق يحدد المعنى المقصود باللفظ لا يعني بطلان نظرية المجاز. وإذا وضح الفرق بين المقصود بالقرينة والسياق انجلى الإشكال.

ولذلك فليس ما أورده أبو فهر مما يتجه على مثبتة المجاز في شيء. بل إنه عند التحقيق ليس إلا مغالطة من جملة مغالطات كثيرة تجدها مبثوثة في كلام أبي فهر.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير