فجاء فساد عمله فرعا عن فساد قوله، فإذا سمع الآيات أصر مستكبرا فلم ينتفع بالحجة العلمية، فكان فساد عمله بالإصرار والاستكبار على طريقة جهلة المعاندين لهذه الملة الخاتمة، فجلهم، إن لم يكن كلهم، لا يعرف عنها شيئا أصلا، أو لا يعرف إلا ما يلقى على آذانه من شبه وأباطيل رؤوس الضلال من المترأسة والمتملكة باسم الدين أو السياسة ممن تهدم الملة الخاتمة عروشهم الطاغوتية هدما، فإنما ناصبوها العداء لا لباطل فيها وإنما لأنها تبطل مآكل السحت ومناصب القهر التي آثروها على اتباع الوحي، فتلك هممهم الدنيئة، وتلك علومهم الرديئة التي أنتجت من فساد الأعمال ما أنتجت فضلوا في أنفسهم وأضلوا غيرهم.
ولو علم حقا فإن فساد تصوره يمنعه من الانتفاع به، فلا يتولد من ذلك إلا فساد العمل فيتخذ الآيات البينات هزوا، وذلك فساد في العمل عريض.
وتأمل قوله تعالى: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ):
إذ ذيلت الآية الأولى: بوصف الريبة فذلك من فساد الأقوال، وصدرت الآية التالية بوصف الجدال فذلك من فساد الأعمال.
فلما ارتاب: فسدت قوته العملية، فأخذ ينافح عن الباطل ولو جدالا مذموما، فلا حجة له من نقل أو عقل، بل حجج الوحي الصحيح والعقل الصريح مبطلة لطريقته، ولكنه لفساد علمه ونيته: لم يعرف الحق ليتبعه، أو لم ينتفع بما عرفه منه، فجاء فساد عمله على قدر فساد علمه، فتلك، كما تقدم، ثنائية طرفاها متلازمان تلازما وثيقا قد دل الشرع والعقل والحس عليه.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"فقوله، (أي: في حديث علي رضي الله عنه): "من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله" يناسب قوله تعالى: (كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب)، وكذلك قوله: (كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار) فذكر ضلال الأول وذكر تجبر الثاني وذلك لأن الأول: مرتاب ففاته العلم حيث ابتغى الهدى في غيره، والثاني: جبار عمل بخلاف ما فيه فقصمه الله وهذان الوصفان يجمعان العلم والعمل.
وفي ذلك بيان أن كل علم دين لا يطلب من القرآن فهو ضلال كفاسد كلام الفلاسفة والمتكلمة والمتصوفة والمتفقهة وكل عاقل يترك كتاب الله مريدا للعلو في الأرض والفساد فإن الله يقصمه فالضال لم يحصل له المطلوب بل يعذب بالعمل الذي لا فائدة فيه والجبار حصل لذة، (بعمله الفاسد فلا ينفك عن نوع لذة وإن كانت عابرة متوهمة وإلا نفرت منه النفس بمقتضى الطبع)، فقصمه الله عليها فهذا عذب بإزاء لذاته التي طلبها بالباطل وذلك يعذب بسعيه الباطل الذي لم يفده"
"الاستقامة"، ص45، 46.
وتأمل حال أولئك الذين قال الله، عز وجل، فيهم: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)
فلما فسد تصورهم للرب، جل وعلا، أسماء وصفاتا، فلم يعرفوا من أوصاف جلاله ما يردعهم عن افتراء الأباطيل، وارتكاب الزور نطقا وفعلا، أو عرفوا فلم ينتفعوا بمعرفتهم شيئا، فهي ترف من القول لا عمل يصدقه، وإنما محض رسوم، لما فسدت تلك القوة العلمية الأولى، فسد العمل، إذ ادعوا من الوحي ما هو محال إذ حالهم شاهد بضد دعواهم، فلا يدعون إلا إلى عين ما جاءت النبوات بإزالة رسومه، من تأليه غير المعبود، جل وعلا، سواء أكان ذلك صراحة أم كناية، وذلك، كما تقدم، هادم لعروش الطغيان الفكري والسياسي ......... إلخ من صور الطغيان،
¥