إذ الوحي ينزع السلطان من المخلوق ليرده إلى خالقه، فلا يصدر المخلوق إلا عن أمره ولا يملك الخروج عن وحيه، على حد قوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
وفي ختام الآية جاء النص على علة ما يلقونه من العذاب الذي استحضرت صورته بالمضارع: "ترى"، واسم الفاعل: "بَاسِطُو" الذي يعمل عمل مضارعه فله من دلالة الاستحضار ما لأصله، فالفرع آخذ حكم أصله بداهة، وما ذلك إلا إمعانا في الردع والزجر، جاء النص على تلك العلة المركبة من:
مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقّ: فذلك فساد القوة العلمية
وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ: فذلك فساد القوة العملية المقترن بالفساد الأول على حد التلازم العقلي الوثيق كما تقدم.
ولذلك ذيلت الآية محل البحث بقوله:
قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ: فلا أتبع نحاتة أذهانكم من شرائع بدعية أو أحكام وضعية ......... إلخ، فكلها من فساد العلم، فلو اتبعتها فـ:
قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ: فالضلال في العمل فرع الضلال في العلم، كما تقدم مرارا، فلو اتبعت الأهواء العلمية لفسدت الأحكام العملية، فصار الشرك توحيدا، وصارت البدعة سنة، وصار الإلحاد: تقدمية، وصار الدين: رجعية، وصار العلمانية والديمقراطية: تحررا من قيود الماضي المتخلف وتجسيدا لحرية الإنسان المطلقة بمعزل عن الشرع الملجم للأهواء، فقد صارت تلك الحرية كعبة تحج إليها القلوب المقفرة من آثار النبوات، ولكل نصيب من الفساد العملي بقدر فساد تصوره العلمي الأول.
قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي: فعندي من العلم النافع، ولا يكون في هذا الباب إلا ما جاءت به الرسل وقامت عليه البراهين النقلية والعقلية المعتبرة، عندي منه الهدى والبينة، فليس دعوى مجردة كدعواكم، وإنما هو كما وصفه الله عز وجل: (هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)، ففيه الهدى النظري الصحيح المشفوع بالبرهان العقلي الصريح، وتلك هي البينات التي أقامها الله، عز وجل، على صحة الرسالات الهاديات.
وفي المقابل أيضا:
تأمل حال الأئمة الأولين:
(وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ)
فاستحقوا منصب الإمامة لما صبروا فذلك صلاح العمل، وكانوا بآياتنا يوقنون: فذلك صلاح العلم، فالحكم دائر مع علتيه: صلاح القول وصلاح العمل: وجودا وعدما، فمتى كان الصلاح كانت الإمامة، ومتى كان الفساد نزعت الإمامة إذ ليس في ذلك الأمر الجليل: أمر إقامة الملة التوحيدية وإنفاذ أحكام الشرائع السماوية، ليس فيه محاباة أو مداهنة لأحد، فذلك أمر لا يقبل التجزئة على حد: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ).
وتأمل حال من قال الله، عز وجل، فيه: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ): فالدعوة أشرف الأعمال، ولكنها لكي تقع صحيحة على مراد الشارع، عز وجل، لا بد أن تشفع بتصور علمي صحيح يسبقها فتلك هي البصيرة.
وتأمل حال من قال: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ): فحسن القول من القوة العلمية النافعة التي تولد عنها لزوما: صلاحه في نفسه، وإصلاحه لغيره، فجاء العمل الصالح مصدقا للعلم النافع.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[28 - 08 - 2009, 07:55 ص]ـ
¥