تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومن قوله تعالى: (يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ): فخذوا زينة البدن من اللباس الحسن، وتعاهدوا ذلك البدن بالمطعوم والمشروب الطيب، فالأمر في: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) مصروف عن الوجوب إلى الإباحة المقترنة بالمنة الربانية، ولا يكون ذلك إلا بحلال طيب، فالمنة لا تكون بمحرم خبيث، ومع ذلك التناول: جاء القيد الشرعي الحاكم: (وَلَا تُسْرِفُوا)، وعلته: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)، إذ الإسراف خروج عن حد الاعتدال، بالإفراط في تعاطي المباحات مما يورث البدن سقما والروح ثقلا، فلا تنهض إلى المراد الشرعي، فالنعمة الربانية، كما تقدم مرارا، مظنة ورود التكليف الشرعي، فلا ينفك القدر الكوني بنعمة أو نقمة، بسعة أو ضيق، عن قدر شرعي يضبط أحوال المكلف فيه بضابط الاعتدال، فلا بطر ولا أشر عند ورود النعمة، ولا جزع ولا سخط عند ورود النقمة، ولما كانت القسمة العقلية: ثنائية: إفراط بالتبذير، وتفريط بالتقتير أو الزهد الخارج عن حد الاعتدال كرد فعل تلقائي للانغماس في الشهوات، إذ لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار مضاد له في الاتجاه، كما قد علم من القاعدة الطبيعية الشهيرة، فلم يكن الزهد على حد ما وقع من غلاة أهل الطريق من الفقراء والزهاد حكرا على ملة بعينها، وإن استأثرت ملة النصارى بعد التبديل منه بقسط وافر، مع ما في ذلك الزهد من ملاءمة لتعاليم دين المسيح، عليه السلام، الذي بعث بشريعة الجمال، كفا لشهوات يهود الذين قست قلوبهم بتحريف الكتاب، ونسيان يوم الحساب، فجاءهم المسيح عليه السلام، بما يلين تلك الحجارة، فغلب على رسالته الجمال بداهة إذ ذلك المناسب لحال من قسا قلبه وكثف طبعه، وذلك أمر مطرد في حال كل داع إلى الله، عز وجل، فإنه إذا رأى من حال مدعوه انكبابا على الدنيا بشهواتها ونسائها وأموالها ........... فالأليق به أن يزهده فيها بذكر عوارها ففيها، كما ذكر ابن القيم رحمه الله، من خسة الشريك وقلة الوفاء ما يجعل العاقل يحترز منها فلا يأخذ منها إلا الكفاف، الذي يبلغه دار المقامة بسلام، ومع ذلك فإن تلك الملاءمة إنما هي من جهة الأصل، لا الحقيقة الكائنة التي ولدت كرامات هي بوصف الإهانات أليق تذكر في كتب القوم على أنها طهارة للأرواح بتقذير الأبدان على حد يأنف كل ذي ذوق سليم من ذكره، ويستحي كل ذي عقل راجح من فعله، ومع ما تقدم إلا أن ذلك الزهد الغالي ليس حدا جامعا مانعا يميز أمة النصارى عن بقية الأمم، بل هو جامع لأجناس الغلاة في هذا الشأن من سائر الأمم، فهو ظاهرة أممية، فحيث كان الإفراط في تناول شهوات الجسد كان الزهد فيها على حد إتلاف ذلك الجسد انتصارا للروح التي أصابها من العطب والثقل ما أصابها، سواء أكان المفرط من:

أمة اليونان التي خرجت منها الفلسفة مع ما فيها من المعاني التجريدية، في محاولة أرضية لكف جيوش الشهوات التي اجتاحت المجتمع اليوناني، فحمل الفلاسفة لواء الذب عن الروح، ولكن سلاحهم كان كالا غير ماضٍ، إذ استندوا في دفعهم إلى أقيسة عقولهم التي برعت في الطبيعيات فرعا عن عناية أمتهم بالعلوم المادية شأنها في ذلك شأن أي أمة وثنية لا تلقي لعلوم الروح بالا، إذ لا تؤمن بدار غير هذه الدار، فهي الجنة باعتبار الحال العاجل، فصرف الهمم في عمرانها أولى من صرفها في تحصيل مآل لا يدرى أيبلغه المكلف أم ينقطع به السير قبل بلوغه، فاللذة الحالية، وإن كانت خسيسة زائلة يكتنفها ما يكتنفها من الآلام، أولى بالتحصيل من اللذة الغائبة، وإن كانت نفيسة خالصة من الشوائب والآفات، وذلك قياس حيواني بكل المقاييس، ولكنه القياس الغالب على بني آدم إذا انحرفوا عن حكم النبوات العدل، فمآلهم لا محالة إلى زيادة أو نقص، فمن قاتل لروحه بالإفراط ومن قاتل لبدنه بالتفريط، والشاهد أنهم كانوا من أبعد الأمم عن وحي الرسالات

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير