تحقيقا.
وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ: فذلك من العموم بعد الخصوص، إذ الزينة من أفرادها، و: "من": بيانية، إذ جنس الأرزاق الطيبة مما امتن الله، عز وجل، بإباحته، فهو: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)، فاللام: لام الاختصاص، إذ اختص المكلفون بأجناس النعيم الأرضي فذلك من دلالة العناية بهم، وكلفوا بإقامة الدين أخبار وأحكاما، فما أعطوا النعم الكونية إلا ليتأيدوا بها على إمضاء الأحكام الشرعية.
قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا: فذلك من البدهيات، التي لا تفتقر إلى بيان ابتداء فأمر السائل أن يجيب نفسه بنفسه على طريقة: أنت أدرى بحالك، وإليه أشار صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، بقوله:
"ولوضوح انتفاء تحريمها، وأنّه لا يقوله عاقل، وأنّ السؤال سؤال عالم لا سؤال طالب علم، أُمر السّائل بأن يجيب بنفسه سؤَالَ نفسِه، فعُقب ما هو في صورة السؤال بقوله: {قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا} على طريقة قوله: {قل لمن ما في السموات والأرض قل لله} في سورة الأنعام، وقوله {عم يتساءلون عن النبإ العظيم} [النبأ: 1، 2] فآل السؤال وجوابه إلى خبرين". اهـ
فهي لهم على جهة الاستحقاق والاختصاص، ووجه ذلك أنه لا تبعة عليهم في تناولها ما أقاموا أمر الشرع، بخلاف غيرهم ممن حظي بنصيب منها، بل لعله قد حظي بالقسط الأوفر منها، ولكن التبعة عليه باقية، فهو مجزي على إفراطه وتعديه في تناولها، إذ ذلك الغالب على من تعاطى الشهوات بمعزل عن النبوات فلا بد أن يقع في تعد وتفريط يجعله أهلا للعقاب الرباني.
خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ: من التبعات ولا يكون ذلك إلا في دار المقامة حيث لا كدر في تناول الطيبات فهي خالصة من الشوائب والآفات والتبعات الشرعية، على حد قوله تعالى: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، فلم يقيد في هذا الموضع بعدم الإسراف إذ لا إسراف في تناول طيبات الدار الآخرة، فذلك من التكليف، والجنة دار جزاء لا دار تكليف.
كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ: الشرعيات من باب الذكرى، واختصاص التفصيل بالقوم العالمين الذين انتفعوا بها تعريض بمن لم ينتفع بها فوصف الجهل به أليق، وإن بلغ من علوم الكون الظاهر ما بلغ.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[29 - 08 - 2009, 08:24 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ)
فصدرت الآية بنداء البعيد استرعاء للانتباه، فمن بعد عن طريقة النبوة، ولو كان فاضلا متأولا كما وقع من بعض الصحب الكرام، رضي الله عنهم، فنداء البعيد بحاله أليق، ولم يخل النداء من نوع تلطف بنعتهم بأشرف الأوصاف: وصف الإيمان، وغيرهم لهم تبع من جهة التكليف لا التشريف، فإن الكافر عن حد الاتصاف بالإيمان خارج، ولكنه في حد التكليف الشرعي داخل، فهو مخاطب بالشرع العملي وبما لا يصح إلا به من الخبر العلمي: خبر النبوات التي قررت التوحيد أصلا، والتكليف فرعا.
لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ: فالنهي قد تسلط على المصدر الكامن في الفعل، فأفاد العموم من جهة الفعل، فضلا عن عموم المفعول الذي دلت عليه: "ما" الموصولة، فإن تحريم الطيبات، ولو على حد الديانة، مظنة التعدي على وصف الحكم الإلهي الثابت للرب العلي، عز وجل، فلا حكم في الخلائق لسواه إذ لا موجد لها ومجري لأسباب بقائها إلا إياه.
واللام في: "لكم": مشعرة بالاختصاص على حد الامتنان فلا يليق بالعبد أن يرد عطية سيده فذلك من التعدي بمكان.
¥