تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ: فذلك من عطف المتلازمات العقلية إذ لا يكون تحريم الحلال ولو ديانة إلا تعديا، ولو كانه صاحبه متأولا مغفورا له، كما تقدم، فالمقام الآن: مقام تأصيل لحكم كلي، لا تفريع لحكم جزئي في حق مكلف بعينه، فالفعل مردود شرعا، ولو كان صاحبه متأولا مجتهدا: فتعلق الذم به غير وارد، وإن كان الفعل مذموما سواء أصدر منه أم من غيره، وهذا أصل جليل في الحكم على الأعيان، فالفعل قد يكون معصية بل كفرا، ولا يذم فاعله لقيام عذر التأويل المانع في حقه، وبذلك اعتذر عن زلات كثير من الأفاضل، وذلك من رحمة شرعتنا وعدلها في الحكم على أتباعها ومخالفيها على حد سواء، فأسماء التكفير والتفسيق والتبديع ........ إلخ: أسماء شرعية، فلا يكفر إلا من كفره الله، عز وجل، وكفره رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقل مثل ذلك في التفسيق والتبديع ....... إلخ، وإقامة البينات في تلك المسائل الشائكة لا يكون إلا للراسخين في العلم ممن أوتوا تخريج المناطات وتحقيقها في عالم الشهادة.

وعلة ذلك النهي: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).

فلا يحب من اعتدى في أي أمر غلوا أو جفاء، فالتوسط على حد ما قررته الرسالة هو مراد الشارع، عز وجل، من عباده.

وفسر التحريم بـ: تحريم الطعام والشراب والجماع، وفسر الاعتداء بـ: قطع المذاكير، أي الاختصاء، كما ذكر ذلك الشاطبي، رحمه الله، في "الاعتصام"، وذلك من تفسير العام بذكر بعض أفراده، فلا يقتصر التعدي على تلك الصور خصوصا بل يتعداها إلى غيرها عموما إذ ذكر بعض أفراد العام لا يخصصه، وإنما فسرت الآية بتلك الصور لكونها الأشهر الأكثر.

وبعد النهي عن الشيء ورد: لازمه من الأمر بضده:

وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا: على حد الإباحة في حق من لم يتعد، والإرشاد لمن تعدى، وقيد بالحلال الطيب إذ ذلك زاد الرسل عليهم السلام، على حد قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ).

وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ: فالأكل مظنة التعدي في المطاعم فناسب ذلك التذكير بقيد التقوى الذي يمنع صاحبه من التعدي والولوغ في المحرمات تعاطيا وتناولا.

والله أعلى وأعلم.

ـ[مهاجر]ــــــــ[30 - 08 - 2009, 07:53 ص]ـ

ومن قوله تعالى: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا):

فهو رب المشرق والمغرب: يجري أجرام السماء إلى مقارها، بمقتضى إرادته الكونية النافذة وحكمته البالغة، فمن كان ذلك وصفه فحري بالعاقل أن يتخذه وكيلا في كل شأنه: الكوني الاضطراري والشرعي الاختياري، فهو الوكيل في تسيير الدماء في العروق، واستحالة الغذاء إلى قوة وحرارة في الأبدان، ودفع أذاه عن آلة الهضم ......... إلخ من التسييرات الكونية، فلا حول ولا قوة إلا به، لا تحول للأغذية المتناولة إلى قوى نافعة يصلح بها حال البدن، ولا قوة يقع بها ذلك التحول إلا بالله، فإن شاء أجرى قوى البدن على سنن العافية، فانتفعت بالمطعوم والمشروب، فصار البدن محلا صالحا لبقاء الروح النورانية، التي لا تعمر إلا الأبدان الصالحة، وإن شاء عطلها فلا تنتفع بمطعوم أو مشروب، فيفسد المحل القابل للروح، فتغادره الروح بإذن ربها، إذ لا بقاء لمادتها العليا في أبدان قد أصابها من أعراض السفل ما أصابها، على حد قوله تعالى: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ).

ولا تحول لجرم عن مشرقه إلى مغربه ولا قوة كونية تسير ذلك الجرم من موضع إلى آخر إلا بالله، ولما كان العبد موكولا إليه في القدر الكوني على حد الاضطرار، فذلك الفقر الاضطراري الذي يستوي فيه الخلائق أجمعون، فهو موكول إليه في القدر الشرعي على حد الاختيار لتتكامل له معاني العبودية: عبودية العبد المذلل كونا، وعبودية العابد المنقاد اختيارا، وإن كانت إرادته من خلق خالقه، عز وجل، فهو الذي امتن عليه بآلة التكليف على حد صح معه تعلق التكليف الشرعي بها، وخلق له إرادة الفعل، وخلق له ذات الفعل على حد الطاعة والاستسلام، فنسبتها إليه نسبة فعل، ونسبتها إلى الرب، جل وعلا، نسبة خلق وإنشاء.

فلا إله يتوكل عليه إلا هو، فرعا عن كونه رب الجهات والأعيان.

والفصل بين جملتي: "رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ" و: "لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ": لشبه كمال الاتصال بينهما، فالتلازم بين الربوبية والألوهية التزام وثيق كما سبقت الإشارة إلى ذلك تفصيلا.

والفاء: تفيد التعقيب بالأمر بعد الخبر، وفيها، أيضا، من معنى السببية ما يصلح لترتب الأمر الآتي بعدها على الخبر السابق لها.

يقول الشاطبي، رحمه الله، في تفسير هذه الآية:

"فهو وكيل لك بالنسبة إلى ما ليس من كسبك، (من: الأمر الكوني)، فكذلك هو وكيل على ما هو داخل تحت كسبك مما هو تكليف في حقك، (من: الأمر الشرعي) ". اهـ بتصرف

"الاعتصام"، ص323.

فكما جعلته وكيلا في تحصيل غذاء بدنك فاجعله وكيلا في تحصيل غذاء روحك، فإن الأرزاق الكونية والشرعية بيده.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير