مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى: فلا يقتصر علمه على مجرد جنس المولود، بل لـ: "ما" من دلالة العموم ما يشمل جنس المولود إذ هو في حد غير العاقل فنزل منزلة الجماد، فصح دخوله في عموم: "ما"، وهي نص في العموم لغير العاقل من الأوصاف أو الأعيان، ويشمل رزقه وعمله ومآله ......... إلخ من المقدر له، فيعلمه الله، عز وجل، على حد التفصيل، بخلاف علم البشر لما في الأرحام فلا يتعدى معرفة الجنس والوصف الظاهر دون علم بالباطن.
وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ: في معرض استيفاء شطري القسمة العقلية بطباق الإيجاب بين: "تَغِيضُ"، و: "تَزْدَادُ"، وقد جعله بعض من تكلم في الإلهيات برسم الفلسفة، كابن رشد الحفيد، رحمه الله، من أدلة الإمكان والوجوب: علة احتياج العالم إلى موجده، جل وعلا، عند الفلاسفة، فالرحم يفتقر إلى المرجح الذي يوجب ازدياده بوقوع الحمل، ويفتقر إلى المرجح الذي يوجب نقصانه بوقوع الوضع، فالحمل والوضع ممكنان، والرب، جل وعلا، هو المرجح لكليهما بكلمته التكوينية، فبـ: "كن": يزداد الرحم بالجنين، وبـ: "كن" أخرى ينقص بدفع الوليد.
وهو دليل صحيح، ولكنه ليس علة احتياج العالم للرب، جل وعلا، بل هو من أدلة هذه العلة، وهي: افتقار هذا العالم افتقارا ذاتيا إلى موجده، جل وعلا، الذي أمده بأسباب الإيجاد والإعداد والإمداد، كما تقدم مرارا، فالفقير يحتاج إلى الغني، ولا يوصف بالغنى على رسم الإطلاق إلا رب الأرباب تبارك وتعالى.
وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ: عموم بعد خصوص، فالحمل بقدر، والوضع بقدر، فذلك من الخصوص، ثم ذيل بالعموم في معرض بيان طلاقة القدرة الإلهية، فكل شيء بقدر، الرزق بقدر، على حد قوله تعالى: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ): فهو الخبير بحالهم لو بسط الرزق إذ الطغيان فيهم جبلة، وهو بصير بما يقع من أعمال عباده خيرا أو شرا، فيحصيها عليهم تفصيلا لا إجمال فيه.
وقل مثل ذلك في أمر كوني، فالأمور الكونية فرع الأوامر التكوينية، فلكل واحد من الأولى واحد من الثانية: لكل مقدور قدر، لكل كائن كلمة تكوينية نافذة.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[03 - 09 - 2009, 09:17 ص]ـ
ومن قوله تعالى:
(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ: فالحال: "بالحق" عمدة مؤسسة لا يستغنى عنها، وإلا فسد المعنى، بخلاف ما غلب على الحال من كونها فضلة مؤكدة، فما خلقناهما على ذلك النحو البديع إلا بالحق، وذلك ينافي العبث واللهو، الذي جاء النص على نفيه في سياق آخر كانت فيه الحال، أيضا، عمدة مؤسسة، كما في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ).
وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ: على حد التوكيد، بـ: "إن" واللام المزحلقة في: "لآتية" فذلك مما يصبر النفس على احتمال أذى الخلق، إذ ما لم يستوف في الدار الأولى فهو إلى الآخرة مؤجل
فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ:
فرعا عما تقدم، لما للفاء من دلالة على السببية، وإن لم تكن نصا فيها على الدوام، والمصدر: "الصفح" موطئ لما بعده من وصف الجمال، فالمصدر مبين بوصفه لنوع عامله، فليس المراد مجرد الصفح، وإنما المراد نوع بعينه هو: الصفح الجميل.
وذلك على القول بعدم نسخ آيات الموادعة، فهي منسوءة يعمل بها في أزمنة الضعف والانحسار، كما يعمل بآيات السيف في أزمنة العزة والانتصار.
ثم ذيل بوصف يلائم ما تقدم من خلقه السماء والأرض على ذلك النحو البديع: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ):
فجاء السياق مصدرا بوصف الربوبية الخاصة للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في معرض الإيناس والتسلية، ومصدرا بالتوكيد بـ: "إن"، فضلا عن اسمية الجملة الدالة على الثبوت والاستمرار، فالوصفان له ملازمان، إذ ليس من صفات كماله ما حدث له بعد أن لم يكن، وضمير الفصل: "هو"، وتعريف الجزأين: "ربك" و: "الخلاق" وجاء الوصفان: "الخلاق العليم" على حد المبالغة، فهو الخلاق الذي يعيد ما خلق ويكرره كما كان، بل يخلق خلقا جديدا أحسن مما كان فلا يعجزه أي خلق.
انظر: "أسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة"، اسم الله تبارك وتعالى: "الخلاق"، الاسم رقم: 75، ص587.
فذلك أبلغ في بيان القدرة الإلهية وهو العليم إذ لا يكون خلق إلا بعلم متقدم بداهة، على حد قوله تعالى: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، فصدر بالعلم في معرض الاستفهام التقريري وذيل بالوصف الأخص: اللطيف الخبير، فهو عليم بالدخائل الباطنة علمه بالأحوال الظاهرة وذلك أبلغ في بيان الحكمة الربانية.
وجعل أبو السعود، رحمه الله، الآية الثانية بمنزلة العلة للأمر بالصفح في الآية الأولى، فهي من نمط العلل المصدرة بـ: "إن" المؤكدة المفصولة لشبه كمال الاتصال بين العلة ومعلولها.
قال رحمه الله:
" {العليم} بأحوالك وأحوالِهم بتفاصيلها فلا يخفى عليه شيءٌ مما جرى بينك وبينهم، فهو حقيقٌ بأن تكِل جميع الأمورِ إليه ليحكُم بينكم، أو هو الذي خلقكم وعلِم تفاصيلَ أحوالِكم وقد علم أن الصفحَ اليوم أصلحُ إلى أن يكون السيفُ أصلحَ، فهو تعليلٌ للأمر بالصفح على التقديرين". اهـ
والله أعلى وأعلم.
¥