تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فكلها أمم كأمة البشر المكلفين، منهم العاقل المجبول على الطاعة فهو غير مبتلى وهو: جنس الملائكة، ومنهم العاقل المبتلى فهو مكلف، كالإنس والجن، ولذلك صح توجه الخطاب إليهم في معرض التقرير إقامة للحجة الرسالية: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ).

ومنهم غير العاقل فيشارك الأمم العاقلة في سمات الاجتماع والتنوع إلى أنواع تندرج تحت أجناس.

فالقصر في الآية: حقيقي، وفي مقام هكذا يحسن فيه التوكيد إمعانا في بيان طلاقة القدرة الإلهية، في مقابل ما اقترحوه في الآية السابقة: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)، في مقام كهذا حسن الإتيان بأقوى أساليب القصر: النفي والاستثناء.

و: "أل" في الكتاب: "عهدية"، والعهد ذهني ينصرف إلى:

القرآن في قول: فيكون المراد النص على الكليات العامة لا الجزئيات الخاصة على ما اطرد في التنزيل من إجمال، ففيه أصول العلوم الشرعية التي فصلتها السنة النبوية، إلا مواضع يسيرات جاء فيها التفصيل والبيان، وفيه أصول العلوم الكونية لا على حد التناول المفصل لمسائلها، فلم ينزل القرآن، وهو كتاب هداية، لتقرير مسائل الطب والزراعة بداية!، وإنما تلك نوافل بعد فريضة: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)، فما نزل إلا لتقرير مسائل الإلهيات العلمية والحكميات العملية التي بها صلاح الأديان، فإن الرسل لم يكونوا علماء طب أو فلك فتلك من العلوم التي تكتسب من غير طريق الوحي، بخلاف علوم النبوات التي لا اكتساب فيها، فهي محض هبة ربانية لبشر اصطفاهم الله، عز وجل، بعلمه وحكمته، على حد قوله تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ)، اصطفاهم لبلاغ الرسالة، فعلومها توقيفية تخضع لها العقول، إذ العقل عن معرفة الغيب المطلق بمعزل، فلا بد له من مصدر تلق صحيح، ولا أصح من النبوات في باب السمعيات فهي مصدر تلق لا يتطرق إليه الخطأ لمكان العصمة، فقد قامت الدلائل النقلية والعقلية والحسية على حاجة البشر إليها، وتواترها في الأمم السابقة، وصحة دعاوى الصادقين ممن ادعوها فأيدهم الله، عز وجل، بالبراهين العقلية والحسية على صدق ما جاءوا به من مسائل الهدى الخبرية، فليس لمن بعدهم في إدراك النجاة مطمع إلا باقتفاء آثارهم على حد النقل الصحيح عنهم، وليس ذلك بعد بعثة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالذكر المحفوظ، ليس ذلك بعد تلك البعثة المباركة إلا لأمة الإسلام التي قامت الدلائل على صحة رسالتها وتضافرت جهود قرونها المفضلة على حفظ كتابها وسنة نبيها صلى الله عليه وعلى آله وسلم حفظا سلم له القاصي والداني، فلها من صحة علوم الرواية ما يوجب تصديق خبرها ولها من صحة علوم الدراية ما يوجب قبول حكمها، فأخبارها أصح الأخبار وأحكامها أعدل الأحكام.

أو هي للعهد الذهني الذي ينصرف إلى اللوح المحفوظ، فتكون دلالة العموم في السياق محفوظة، إذ اللوح المحفوظ قد كتبت فيه سائر المقادير الكونية على حد التفصيل، فالقول الأول يتطرق إليه الخصوص من جهة أنه يدل على كتابة المقادير الشرعية على حد الإجمال، فآيات الكتاب العزيز، كما تقدم، كليات جامعة، فيقيد الشيء في القول الأول، بالشرعي، ويطلق عن القيد في القول الثاني فهو يعم الشرعي والكوني فكلاهما في اللوح قد كتب، وهذا القول أرجح من جهة عمومه، والأولى حمل النص على المعنى الأعم ما أمكن فذلك الأصل فلا يصار إلى الخصوص وهو الفرع إلا بورود القرينة الصارفة المعتبرة، ويرحجه، أيضا، ما صدرت به الآية من إيجاد الكائنات أمما، فذلك بمعاني القدر الكوني أليق منه بمعاني القدر الشرعي، فإن من تلك الكائنات ما لا يدخل في حد التكليف، فلا يتعلق به القدر الشرعي بخلاف القدر الكوني الذي يتعلق بكل الموجودات أعيانا وأوصافا. فهو الأليق، كما تقدم، في معرض بيان طلاقة القدرة الإلهية.

ثم ذيل بكون المرجع إليه، عز وجل، كما كان المنشأ منه: فمنه ابتداء الخلق بكلمته التكوينية، وإليه رجوعه بكلمته التكوينية، فالإيجاد بكلمة، والإعدام بكلمة، والبعث والنشور بكلمة، وحمل المحشر على اليوم الآخر هو الأليق بمقام التفخيم والتعظيم من حمله على الموت، كما أشار إلى ذلك أبو السعود رحمه الله، وإن كان الموت نوع حشر، كما أثر ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما.

والضمير في: "ربهم" و: "يُحْشَرُونَ": راجع إلى الدواب والطيور فيكون ذلك من التغليب إذ قرنا بالأمم العاقلة: (أمثالكم)، فأخذا حكمها، من باب تغليب العاقل على غير العاقل حال اجتماعهما، أو هو راجع إلى الأمم، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله.

فالآية جارية على حد دلالة الإيجاد، وفي مقابلها: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)، فالإشارة إلى الرزق جارية على حد دلالة العناية.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير