ـ[مهاجر]ــــــــ[06 - 09 - 2009, 08:14 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)
فجعلهم الله، عز وجل، باصطفائه الكوني أئمة هدى، وعظم المنة الربانية مما يحسن معه ورود الضمير بصيغة الجمع تعظيما، فتلك، كما تقدم في أكثر من مناسبة، أعظم منة وأشرف وظيفة، وشرف التكليف من شرف المكلِّف به، وهي في المقابل: أصعب مهمة فلا يصطفي الله، عز وجل، لها إلا أعظم البشر شأنا، وأكملهم حالا، فالله، عز وجل، أعلم حيث يجعل رسالته، ولا يقوى على القيام بعظائم المهام إلا عظائم الرجال، ولا أعظم من الأنبياء، عليهم السلام، ولا يقوى على خلافتهم إلا أعظم الأولياء، ولذلك كان خلفاء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على حد الخلافة الراشدة: أعظم الأولياء، فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم: فروع ولابة من شجرة النبوة الخاتمة، اصطفاهم الله، عز وجل، لحمل رسالة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما اصطفاه لبلاغها، فاختاره واختار له أصحابه، رضي الله عنه، فهو العليم بقلوب عباده أزلا، قد اطلع عليها فعلم ما فيها من الإرادات، فاختار لصحبته صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أصح الناس إرادات باطنة، وأعمقهم علما، وأقلهم تكلفا في الأعمال الظاهرة، فلهم من كمال الإرادات والعلوم والأعمال ما صيرهم أفضل طباق الأمة، كما أن متبوعيهم من: الأنبياء أفضل طباق البشر، فمن كان بحالهم أشبه فهو على منهاج النبوة أرسخ، فالنجاة دائرة مع رسالات وشرائع الأنبياء، عليهم السلام، وجودا وعدما، وذلك شرح وصف الإمامة، فالمأموم لإمامه متابع ولحركاته وسكناته ملاحظ، فليست الديانة دعوى لسانية بلا أدلة عملية، بل هي بالبرهان العقلي، والتصديق القلبي، والإقرار اللساني، والانقياد البدني: مشفوعة، فتلك أدلة صحتها.
وهدايتهم إنما تكون بأمر من أرسلهم، عز وجل، وهو هنا الأمر الشرعي بداهة إذ الأمر الكوني مرسل كائن لا محالة، ولو لم تكن ثمة نبوة، فرسله من جند الرب، جل وعلا، الملائكية لا من رسله البشرية.
وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ: على حد ما تقدم من التعظيم في مقام الاصطفاء بالوحي الشرعي، إذ هو وحي النبوات، بخلاف وحي الإلهام من قبيل: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)، ووحي الأمر من قبيل: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا).
فِعْلَ الْخَيْرَاتِ: فذلك من العموم، و: "أل" الجنسية في: "الخيرات" رافعة لتوهم معنى القلة في الجمع بالألف والتاء، فليس خير النبوات قليلا بل هو من العموم وصفا وقدرا بمكان، فأعمال النبوات أكمل الأعمال وصفا، وطرائق الخير فيها متعددة فقد بلغت قدرا عظيما يستوعب كل الهمم على اختلاف الميول والشيم، فمن سائر همته في السجود طلبا للقرب الخاص، قرب: (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)، ومن سائر همته في الإنفاق طلبا لتزكية الأموال، ومن سائر همته الصيام طلبا لتزكية الأبدان، ومن سائر همته طلب العلم النافع وبذله لمن يستحقه طلبا لحفظ الأديان بالججح والبراهين فهو على ثغور الرسالة العلمية مرابط، ومن سائر همته طلب العدو في ميادين الوغى بالسيوف والأسنة فهو على ثغور الرسالة العملية مرابط، فجنس رباطه من رباط العالم، إذ لا قيام لهذا الدين إلا بكليهما: فالأول يرد جيوش الشبهات بعلمه، والثاني يرد جيوش الأعداء بسيفه، ولكل ما يناسبه من القدر الشرعي فرعا عما جبل عليه من الخُلُق والخَلْق التكويني.
فالنبوات بكل خير شرعي آمرة، وعن كل شر ناهية، ولكل مصلحة معتبرة مقررة، ولكل مصلحة متوهمة ملغية، وإن توهمت العقول، بادي الرأي، فيها مصلحة، وإنما بعث الأنبياء بالميزان، على حد قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)، فبه توزن المصالح والمفاسد، فيقدم أولاها بالاعتبار عند التزاحم وتعذر الجمع بينها، وذلك باب من العلم والعمل دقيق لا يتقنه إلا من تضلع من علوم الأنبياء عليهم السلام، فتلك من بركة اتباعهم فهم كما صدرت الآية: أئمة هادون برسم الأمر الشرعي الإلهي، فلسانهم: لسان الوحي المعصوم، فالسلامة كل السلامة في اتباعهم، إذ اتباع المعصوم مظنة العصمة، فذلك أمر بدهي يدركه كل ذي لب سوي.
وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ: فذلك من الخصوص بعد العموم تنويها بشأن تينك العبادتين. فالصلاة مئنة من كمال الانقياد البدني، والزكاة مئنة من كمال الانقياد المالي، والبدن والمال أعز ما يملك الإنسان فإذا صير الشرع فيهما حاكما فذلك برهان هداية ودليل ولاية.
وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ: على حد الاختيار، فذلك أشرف ما يوصف به البشر، على حد قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى).
فهم عبيد بمقتضى الأمر الكوني النافذ فيهم وفي غيرهم، عابدون بمقتضى الأمر الشرعي الذين اصفاهم الله، عز وجل، بامتثاله، فكل عابد عبد ولا عكس.
والإخبار بكان مئنة من دوام اتصافهم بذلك الوصف، وتقديم ما حقه التأخير مئنة من كمال تلك العبودية فله، وحده، جل وعلا، عبوديتهم الاضطرارية والاختيارية.
والله أعلى وأعلم.
¥