تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وبعد بيان فساد أمر الدنيا، جاء بيان فساد أمر الدين على ما تقدم من الاقتران المطرد بينهما:

وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ: فذلك الفساد في الدين.

وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ: فذلك سببه، وما كان له أن يزين لهم ذلك إلا بمشيئة الرب، جل وعلا، الكونية، إذ ابتلاهم بتسليط الشيطان وحزبه عليهم، فذلك من عدله وحكمته، ولو شاء لعافاهم بفضله ومنته، فالخلق، كما تقدم مرارا، يتقلبون في أقداره فضلا بالعطاء وعدلا بالمنع، وأفضل عطاء: الاستقامة على الوحي المنزل أخبارا وأحكاما، وأعظم منع: حجب أسباب الهداية الشرعية، فيرى الناظر: الباطل حقا فينتحله، والحق باطلا فيجتنبه، وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، فلا عذاب إلا بعد قيام الحجة الرسالية، وبيان المحجة الإلهية.

فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ: فذلك جار مجرى التذييل لما تقدم من باب عطف اللوازم على ملزومها، فتزيين الشيطان ذريعة إلى الصد عن سبيل الحق، وذلك مئنة من الضلال وعدم الهداية. على حد قوله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى)، فيسرت له أسباب الضلال بمقتضى ما تقدم من عدله وحكمته، جل وعلا، جزاء وفاقا لما تلبس به من أوصاف السوء. فالفاء تعقيبية لا تخلو من معنى السببية، فما بعدها فرع عما قبلها، فمن كان بتلك الأوصاف متلبسا فهو جدير بعقوبة الإضلال الكونية إذ هي فرع عن معصية الإعراض عن الطريقة الشرعية.

ثم أطنب ببيان ذلك الصد، فقال:

فصدَّهم لأنْ لا يسجدوا له تعالى، كما أشار إلى ذلك أبو السعود، رحمه الله، وجاء الوصف بالموصول بمنزلة تعليق الحكم على الوصف الذي اشتقت منه الصلة، فإخراج مخبوء الأرض من الكنوز والمعادن من أوصاف الربوبية، إذ الرب، جل وعلا، هو الذي عدنها في باطن الأرض، وهدى الخلق إلى استخراجها بما يسر لهم من الأسباب الكونية، فذلك عند التحقيق من دلائل عنايته، جل وعلا، بعباده، فتلك الكنوز مدخرة إلى آجال، وفترة نصف العمر لبعضها قد تمتد إلى أحقاب وأحقاب حتى يستخرجها البشر إذا شاء الرب، جل وعلا، في حقبة بعينها، فإن لم يسيروا فيها على حد الشرع، صارت وبالا، فالعناصر المشعة قد تستخدم في العلاج فتستبقى بها الأبدان، بمشيئة الرب، جل وعلا، وقد تستخدم في الإفناء كما وقع في هيروشيما إذ أبيدت أمة من البشر لاختبار فاعلية سلاح جديد وكما جرى في العراق وغزة أخيرا من اختبار لآخر إصدارات الترسانة الأمريكية، وماهية السبب الكوني: واحدة، ولكن تباين النظر في استعماله تبعا لتباين التصورات التي لا تصح إلا بالتضلع من علوم النبوات التي بها يعرف الخير من الشر، ذلك التباين هو الذي جعله نعمة في يد إنسان، ونقمة في يد آخر، فعند الأول ما ليس عند الآخر من الوازع الشرعي أو الطبعي إن كان في نفسه أثر من آثار الفطرة الأولى.

وقد خص الهدهد ذلك الوصف بالذكر، إذ قد هدي إلى استخراج بعض مخبوء الأرض، فاستخراج الماء صنعته، فعنده من العلم بذلك الشأن ما ليس عند غيره، ولما كان على رسم التوحيد، كان العلم في حقه منقبة، فدخل في حد: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)، ومن كان بالله أعلم كان له أتقى وأخشى.

وذيل بوصف العلم المحيط على حد المضارع مئنة من ديمومة الوصف إذ ذلك بوصف إخراج المخبوء أليق، فلا يكون ذلك إلا فرعا عن علم محيط بكل الموجودات على سبيل التفصيل الجزئي، وكل الأحوال: ظاهرها وخفيها، فهو الذي: (يَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ)، وذلك، أيضا، من الإطناب في ذكر وصف الربوبية في معرض الإنكار على من عطل حق الألوهية فصرفه لغير الله، عز وجل، كما وقع من أولئك القوم.

ثم استأنف مقررا لكمال ألوهية الرب، جل وعلا، فرعا عن كمال ربوبيته ومنتصرا لذلك في حمية لا توجد عند كثير من البشر:

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ: فهو الذي انفرد بالألوهية الحقة فرعا عن انفراده بكمال الربوبية، إذ هو رب أعظم المخلوقات: العرش العظيم الذي هو سقف الكائنات فربوبيته لما دونه من الموجودات ثابتة من باب أولى، فالإضافة هنا: إضافة رب خالق إلى مربوب مخلوق، تنويها بعظم ذلك المربوب، فعظمه من عظم ربه، عز وجل، بداهة، والإضافة هنا جارية على حد: ذكر بعض أفراد العام تمثيلا فلا يخصص العموم به، فليس تخصيص العرش بالذكر مخرجا لما سواه، بل هو على حد ما تقدم من القياس الأولوي، فهو رب العرش العظيم ورب ما دونه من باب أولى، فله كمال الربوبية التي بها استحق كمال الألوهية، فالتذييل بوصف الربوبية في هذه الآية بمنزلة التذييل بالدليل عقيب ذكر المدلول وذلك من أجود ما يكون في باب الحجاج العقلي إذ به ينقطع الخصم، فليست المسألة دعوى بلا برهان، بل هي بالبرهان مشفوعة، وكل شبهة عنها مدفوعة.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير