فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ:
فذلك من المجاز الإسنادي مئنة من عظم الرجفة النازلة بهم، فشدتها من شدة أخذ مرسلها، عز وجل، على حد قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ).
ثم صدر الكليم، عليه السلام، دعاءه بوصف الربوبية فذلك أليق بمقام الأخذ بالرجفة، التي هي عن صفات جلاله صادرة، إذ الربوبية مئنة من التصرف المطلق في الأحداث الكونية ومنها إرسال العذاب عدلا أو إمساكه فضلا، على حد قوله تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى).
وحذف اللام من جواب "لو": "أهلكتهم" على خلاف ما اطرد من دخولها على جواب "لو" الماضي، مئنة من تلك الربوبية العامة، إذ اللام للتوكيد، ومعنى الإهلاك بمشيئة الرب الجليل أمر لا يحتاج توكيدا فهو على حد قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ)، فإن الزرع قد يتطرق إلى ذهن الزارع أنه المتصرف فيه بمباشرة سببه فحسن التوكيد رفعا لذلك الاحتمال القادح في عموم وصف الرب، جل وعلا، مجري الأسباب الكونية بمقتضى حكمته البالغة، بخلاف عذوبة الماء النازل من السماء فإن ذلك مما لا يتجرأ عاقل على ادعاء التصرف فيه بالإذن أو المنع، فحسن حذف اللام في: (لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ) لكون الأمر غنيا عن التوكيد، فعدم التوكيد في هذا السياق هو عين التوكيد لكون الأمر غنيا عن التنويه به، فهو من المعلوم الضروري شرعا وعقلا وحسا إلا عند من فسدت فطرته التوحيدية الأولى فتلطخت بأدران الشرك.
وذلك جار على حد الإيجاز بحذف ما استغنى السياق عنه، بل الحذف في هذا المقام أبلغ وآكد على التفصيل المتقدم.
أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا: فذلك من التفجع في مقام التضرع إلى الباري، عز وجل، والأنبياء عليهم السلام أحق الناس بذلك المقام الجليل: مقام الخضوع والتضرع على حد الاختيار إلى الرب الجليل عز وجل.
إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ: فلك وحدك أمر الإضلال عدلا أو الهداية فضلا، فاستوفى السياق شطري القسمة العقلية: الضلال والهدى، وذلك بما تقدم من جلال مقام الربوبية أليق، فالتصرف في القلوب إقامة أو إزاغة مئنة من كمال قدرة الرب جل وعلا.
فصدر الدعاء الآتي بذلك الوصف المشعر بتمام التسليم والافتقار إلى الرب، جل وعلا، في حصول أسباب الهداية، ثم قصر الولاية الشرعية والكونية على الرب، جل وعلا، بتعريف الجزأين:
أَنْتَ وَلِيُّنَا: فلا ولي لنا سواك في تصريف الأمور الكونية وتقرير الأوامر الشرعية، فتمام الولاية على حد الخضوع الكوني القاهر الذي لا خروج لكائن عنه، والخضوع الشرعي الاختياري الذي يمتن به الرب، جل وعلا، على من اصطفاه من عباده، تمام ذينك الجنسين من الولاية لك وحدك فأنت الرب المصرف والإله المشرع.
فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا: فرعا عما تقدم من دعاء الثناء، فهو من حسن الاستهلال بالثناء على الرب، جل وعلا، بين يدي دعاء المسألة: فاغفر الذنوب بسترها والوقاية من أثرها، وارحمنا، فذلك لازم المغفرة، فهو من الإطناب في مقام سؤال الحاجات على حد الافتقار إلى من يقضيها بقدرته الكونية النافذة، فذلك الإطناب به أليق، وإنما قدمت المغفرة على الرحمة إذ بها درء العقوبة، فإذا رفعت أمن الداعي من تنغيص ما بعدها من الرحمات التي هي فرع عنها، وذلك جار على حد قول الفقهاء: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
وإلى طرف من ذلك أشار صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، بقوله:
"وقدم المغفرة على الرحمة لأن المغفرة سبب لرحمات كثيرة، فإن المغفرة تنهية لغضب الله المترتب على الذنب، فإذا انتهى الغضب تسنى أن يخلفه الرضا. والرضا يقتضي الإحسان". اهـ
ثم ذيل بقوله: وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ: فأعاد الضمير لطول الفصل، وفيه استحضار لمقام الرب، جل وعلا، في معرض الثناء عليه ثناء يلائم ما تقدم من طلب المغفرة، فهو جار على حد التذييل بعطف العلة على معلولها، فعلة طلب المغفرة منك، أنك: خير الغافرين، فهو من الأسماء المقيدة بوصف الأخيرية المطلقة، فالله، عز وجل، خير من غفر وستر ورحم، فلا يحتاج إلى وسائط لحصول المغفرة على حد ما يقع في عالم الشهادة من استشفاع المذنبين بجاه الشافعين عند الملوك والأمراء، فيضطر أولئك إلى قبولها رغبا في طاعة الشافع أو رهبا من عصيانه، وذلك مئنة من افتقار ملوك الدنيا إلى من يعضد ملكهم فيصانعون الأتباع استئلافا واستبقاء لودهم، فلا قيام لملكهم إلا بمعونة أولئك، وتلك معان باطلة، بداهة في حق الرب الغني على حد الإطلاق تبارك وتعالى.
وسوغ عطف الخبر: "وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ" على الإنشاء في: "فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا"، أن الخبر في معنى الطلب، فهو من الخبر الذي أريد به إنشاء طلب المغفرة كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله.
والله أعلى وأعلم.
¥