للاستماع والتدبر العقلي الذي يولد علوما صحيحة وأعمالا صالحة، فهي آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم تستمع في مجالس الذكر التي تخيم عليها السكينة والرقة والخشوع، فلا تسمع في مجالس الطرب التي يخيم عليها الهيجان والتصويت فلا تدبر بالقلب ولا خشوع بالبدن، وإنما حظ نفس وقضاء وطر في سماع ألحان منغمة تتمايل معها القوى النفسانية الباطنة فتنضح على الظاهر حركات مخجلة لا يفعلها إلا السفهاء أو المجانين.
ومع ذلك: أبى أكثر الناس إلا كفورا: فصيغة المبالغة: "كفورا": مئنة من إصرارهم على الكفران، فضلا عن دلالة هذه الصيغة على شدة العناد والتشبث بالأمر حتى صارت جارية مجرى المثل المضروب للمعاند المتعنت كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله.
وفي الآية إثبات لإرادات العباد التي عنها يسألون، وعليها يثابون أو يعاقبون، ولا تخرج تلك الإرادات عن مشيئة الرب، جل وعلا، الكونية النافذة.
ثم جاء التكريم لحامل تلك الرسالة الخاتمة ومبلغ تلك الآيات النازلة على قلبه على حد الإنذار بلسان عربي مبين:
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا: فلو شئنا بمقتضى ما تقدم من المشيئة النافذة لبعثنا على حد: البعث الشرعي، بعث: (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ)، في كل قرية منذرا، فـ: "فعيل": "فاعل" في هذا السياق على حد تبادل الصيغ، فهو من مجاز التعلق الاشتقاقي عند من يقول بالمجاز في آي الكتاب العزيز.
ويلزم من يقول بالمجاز أيضا: أن يكون في السياق: إيجاز بالحذف على تقدير: في أهل كل قرية، إذ البعث إنما يكون في أهل القرى لا في ذات القرى، ومنكر المجاز يسم ذلك التقدير بالتكلف إذ المعنى ظاهر ابتداء، والقرية في التنزيل تطلق على المكان وتطلق على ساكنيه، والقرينة السياقية هي التي تحدد المراد، دون حاجة إلى تكلف ادعاء وقوع المجاز، فذلك من الظاهر المركب من دلالة اللفظ الوضعية وقرينة التكلم السياقية.
ووجه الإكرام، كما أشار إلى ذلك صاحب الكشاف غفر الله له، أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد حصلت به الغاية في باب الإنذار، فلرسالته من وصف العموم ما ليس لغيرها، فهي الرسالة العالمية الخاتمة، وذلك تكريم لحاملها بداهة، فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم، فعظائم الأمور لعظائم الرجال، وأعظم أمور الناس: أمور النبوات، فالأنبياء أفضل طباق البشر، وأعظم نبوة: نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو أفضل طباق الأنبياء فهو خيار من خيار، صلوات ربي وسلامه عليه. فذلك شق التكريم والتشريف.
وفي السياق إيجاز بالحذف دل عليه الشرط المتقدم على حد: ولكن لم نشأ فبعثناك نبيا خاتما، فذلك من تمام دلالة "لو" الامتناعية.
وفرع عن ذلك:
فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا: فذلك شق التكليف، فلكونك النبي الخاتم لا تطع الكافرين، على حد التحذير والتذكير فلا يلزم منه وقوع المنهي عنه، إذ لم يستجب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمساومات قومه على حد الترغيب تارة والترهيب تارة أخرى فتلك سنة أهل الطغيان في كل زمان.
ثم ثنى بالفعل، فبعد التخلية تأتي التحلية، على حد ما يجري على لسان أهل الطريق في مقام التزكية، فالترك العدمي غير مراد لذاته، حتى يشفع بفعل وجودي نافع، فمقابل النهي عن طاعتهم وما يجره ذلك من الوهن في أمر البلاغ جاء الأمر بضده من: كمال الجهاد ففيه بذل الوسع واستفراغ الجهد بما يرفع أي احتمال للضعف أو القعود عن حمل أعباء الرسالة فضلا عما تدل عليه صيغة المفاعلة من المناجزة والمغالبة فذلك مظنة بذل الطاقة طلبا للظهور على الخصم، وإلى طرف من ذلك أشار صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، بقوله:
"وبعد أن حذره من الوهن في الدعوة أمره بالحرص والمبالغة فيها. وعبر عن ذلك بالجهاد وهو الاسم الجامع لمنتهى الطاقة. وصيغة المفاعلة فيه ليفيد مقابلة مجهودهم بمجهوده فلا يهن ولا يضعف ولذلك وصف بالجهاد الكبير، أي الجامع لكل مجاهدة". اهـ
¥