تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالنزول الجملي إنما كان في ليلة القدر إظهارا لشرف المنزل بتعدد منازله، فهو في اللوح المحفوظ مسطور، وفي بيت العزة مكنون، وفي صدور الذين أوتوا العلم كائن موجود على حد قوله تعالى: (بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)، قد سمعه الروح الأمين من رب العالمين فنزل به مرسَلا إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مبلِّغا، فصدر عن الرب جل وعلا: صدور الوصف من موصوفه، وصدر من الروح الأمين والنبي الخاتم عليهما السلام: صدور الرسالة من المرسَل بها، فليس لهما فيه إلا البلاغ، إذ الإنشاء له لا يكون إلا لرب العالمين الذي تكلم به كيف شاء، فجاء على أبين لفظ وأحكم معنى، فهو المعجز بمبناه ومعناه، بأخباره وشرائعه، فيه زبدة الرسالات التوحيدية، وخلاصة الشرائع السماوية، فخبره أصدق خبر، وشرعه أحكم شرع، فلله الحمد، على ما أنزل من الهدى والبينات، فبها أقيمت الحجة وبانت المحجة، وعلمت مراضي الرب، جل وعلا، متعلق وصف جماله، لتمتثل، وعلمت مساخطه، متعلق وصف جلاله، لتجتنب.

وجاء الإنزال في: ليلة مباركة: نكرت تعظيما ووصفت على حد الإطناب فهي: مباركة، فذلك الوصف المفرد، و: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ: فذلك الوصف المركب، على ما اطرد في لسان العرب من تقديم الوصف المفرد على الوصف المركب عند اجتماعهما في سياق واحد، وقد يقال بأنه جار مجرى البيان بعد الإجمال، فالبركة مجملة، وبيانها أنها: فيها يفرق كل أمر حكيم، ففيها التقدير السنوي العام الجاري على وفق ما سطر في اللوح المحفوظ، فيفصل فيها القضاء الكوني لعام تالٍ، ومجيء المضارع: "يفرق" استحضار للصورة العلمية إمعانا في التقرير، فيعلم من يموت ومن يحج ومن يولد، ومن يولد له ........ إلخ من أجناس المقدورات الكونية الواقعة بمقتضى الكلمات التكوينيات النافذات، حتى إن الرجل، كما أثر عن بعض السلف، ليبيع ويشتري ويولد له وقد كتب في عداد الموتى في هذه الليلة، فحري بكل مسلم أن يجتهد في ليلة كهذه، يفصل فيها القضاء الكوني بالأرزاق والآجال، لينال حظه من الرزق الشرعي والكوني، ولينال حسن الخاتمة إن كان قد كتب في عداد الموتى، أو حسن العمل إن كان قد مد له في الأجل، فيسأل الله، عز وجل، غير متعد، ليختار له بعلمه المحيط وحكمته الباهرة صالح أمره في المعاش والمعاد، فإن كان في البقاء، فذلك مما يحفز الهمم للعمل على حد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "كل ميسر لما خلق له"، وإن كان في الممات، فذلك، أيضا، مما يحفز الهمم للعمل على حد دعاء: (واجْعَلْ خَيْرَ أَعْمَالِنَا خَوَاتِيمَهَا وَخَيْرَ أَيَّامِنَا يَوْمَ نَلْقَاكَ)، فهو، في كلٍ عامل مجتهد، ليس له في نفسه حظ أو اختيار، بل هو مستسلم منقاد لأمر ربه الشرعي، مؤمن موقن بنفاذ أمره الكوني، وتلك منزلة لا يكاد ينالها إلا آحاد السالكين، ممن شهدوا: القدر النافذ والشرع الحاكم، فلم يبطلوا الشرع بالقدر، ولم يركنوا إلى الأسباب شرعية كانت أو كونية فيهملوا جانب القدر الجاري على وفق ما شاء الرب القدير الجبار تبارك وتعالى، وذلك، أيضا، من المقامات الشريفة التي تجري على الألسنة مجرى التذكير وإن لم يكن لقائلها حظ إلا: (وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا)، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في أكثر من مناسبة، فلعل سائرا إلى الله، عز وجل، قد أخلص قلبه وأتقن عمله، ينتفع بها فتكون له زادا في سفر هجرته إلى الباري عز وجل.

ووصف الأمر، وهو واحد الأمور الكائنة بمشيئة الرب جل وعلا، وصفه بالحكيم، إذ هو محكم لا يقبل التبديل، فوصف الإحكام له ثابت على حد ما قرر أهل العلم في تعريف المحكم الذي لا يقبل النسخ، فهو من القضاء الكوني المبرم، ولو قيل بأنه واحد الأوامر التكوينية، فوصف الحكمة له ثابت، فأفعاله، عز وجل، كلها قد بلغت الغاية في الحكمة وإن جهلها من جهلها ممن قصر علمه وضعف عقله، بل العقول مهما أوتيت من القوى الذهنية لا تطيق حد حكمة الباري، عز وجل، على جهة الإحاطة فغايتها أن تدرك طرفا منها.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير