تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالسياق جار على ما اطرد من التنبيه على علة الحكم بإيراد المسند إليه: موصولا قد دلت صلته على الوصف الذي تصح إناطة الحكم المسند به، فذلك من العموم المطرد في آي التنزيل فآياته كليات جامعات قد استوفت من الجزئيات ما يصدق فيه حدها، فالأحكام، كما تقرر في أكثر من موضع، منوطة بأوصاف، فمتى وجد الوصف وجد الحكم اطردا، ومتى فقد الأول فقد الثاني: انعكاسا. وذلك من إعجاز الكتاب العزيز الذي استوفت مبانيه الوجيزات معان كثيرات لا يكاد يحصيها العادون.

فوصفهم: العلم الصحيح: الله ربنا على حد القصر بتعريف الجزأين، فربنا لا رب سواه: الله البارئ الخالق المصور الذي له من أوصاف الربوبية ما صيره أهلا لصرف كل أجناس الألوهية.

وحكمهم: العمل الصالح: ثم استقاموا، فذلك من عطف المتمِم للمتمَم، فصح عقد القلب العلمي، ثم استقام الظاهر والباطن على حد الشرع الحاكم الذي جاءت به النبوة وحيا قد عصم من الخطأ في لفظه، وعصم مبلغه من الخطأ حال أدائه، فهو أصدق خبر يتلقى، وأعدل حكم يمتثل، والإيمان قد اجتمعت أجزائه في تلك الكلمات اليسيرات، فهو علم أول مصدَّق وعمل ثان مصدِّق، فلكل دعوى بينة، وبينة القول: العمل، على حد قوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)، فإذا صح العلم فشهد القلب أسماء الرب، جل وعلا، وأوصافه، ولد ذلك فيه من قوى التأله العملي، ما ينقاد به الباطن فلا يصرف عبادة قلبية إلا لمالك القلوب ومصرفها على حد القهر، فما شاء منها أقامه وما شاء أزاغه، وما ينقاد به اللسان الناطق، فهو بالتنزيل والتسبيح لاهج، وما ينقاد به البدن فهو بأجناس العبادات مذلل خاضع على حد الانقياد الشرعي، فله من وصف الإسلام: الاستسلام القلبي والانقياد بالطاعة فذلك الانقياد البدني، والبراء من الشرك وأهله فذلك الجانب الاحترازي، لئلا تجترئ شياطين الجن والإنس على انتهاك حمى قلبه، فلكل ملك حمى، وحمى القلب ما يحول بينه وبين فساد حاله من الشرك جليه وخفيه، ومن الآفات المهلكات من إحسان ظن بالنفس، أو ركون إلى سبب على حد التوكل على غير ربه، جل وعلا، أو غرور أو عجب أو ......... إلخ من الأدواء المتلفة للقلب القاطعة طريقه في سفر هجرته إلى الرب جل وعلا.

فإذا كان ذلك حالهم من: العلم والاستقامة على حد ما علموه:

فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ: فالنكرة قد جاءت في سياق نفي، مصدرة بفاء الربط، إذ للموصول معنى الشرط من جهة العموم ومن جهة تعليق الحكم على الوصف الذي اشتقت منه صلته تعليق المشروط على شرطه وجودا وعدما، ولا تخلو من معنى السببية، فما تقدم من العلم والعمل ذريعة إلى انتفاء الخوف انتفاء عاما يشتاق إليه كل قلب قد أعيته الهموم وحطمته السنون بأكدارها وأغيارها، فذلك مطلوب كل العقلاء من سائر الأمم والملل، فلا تكاد تجد عاقلا يتحرك إلا تحصيلا لسبب يدفع به الهم والحزن عن قلبه، وإن أخطأ الطريق، لقلة بضاعته في علم النبوة الهادي، فذلك الحكم بانتفاء الخوف والترقب لما هو آت أو الحزن والتحسر على ماض، فرع عما تقدم من إلجام النفس بلجام التكليف، فهو مؤلم في أوله، ليبتلى صاحبه أصادق هو أم كاذب، كما قال ابن القيم، رحمه الله، فإذا صبر واحتسب انقلب ألمه لذة، فلا غنى له عنها بعد أن وجد حلاوتها، فله من جنسها في دار الابتلاء: عاجل البشرى، وله في دار الجزاء كمالها، فمن صبر على ألم المبدأ نال لذة المنتهى، فهو آمن في يوم الفزع، قد أبدله الله من خوفه في دار الآلام أمنا في دار النعيم. فصبر على ساعة ألم يعقبه نعيم أحقاب لا منتهى لها، وجئ بالضمير: "هم" إمعانا في التوكيد، على حد ما اطرد من دلالة ضمير الفصل.

ثم جاء الإطناب في معرض الثناء بالوعد الجميل متضمنا إنشاء الحض على لزوم جادتهم لتنال النفس ما نالوه من الرتب العلية:

أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ: فالإشارة بـ: "أولئك": مئنة من علو مكانتهم، والقصر حاصل بتعريف الجزأين على تأويل: ليس أصحاب الجنة إلا أولئك الذين اتصفوا بكمال العلوم والأعمال.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير