تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والشاهد: أن كل من أوتي العلم سواء أكان ذلك على حد الانتفاع بشفعه بالعمل باطنا وظاهرا، أم على حد إقامة الحجة، كل أولئك يعلمون أن ذلك هو الحق النازل وحيا لهداية الجنس البشري إلى نافع العلم وصالح العمل.

ومرئيهم: الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ: فالإتيان بالموصول، أيضا، مئنة من كون صلته محط الفائدة، فتعليق الحكم على وصف الإنزال من الرب، جل وعلا، مئنة من كونه حقا خالصا غير مشوب بقول باطل أو مرجوح، فذلك غير متصور بداهة في العلوم الإلهية اليقينية التي نزلت على حد الجزم القاطع، وفي ابتداء الغاية من الرب، جل وعلا، مزيد تشريف له، فشرفه من شرف من صدر منه: صدور الصفة من الموصوف الذي قامت به، فشرف كلامه على كلام البشر من جنس شرف ذاته القدسية الكاملة على ذواتهم الأرضية الناقصة.

وقوله: هُوَ الْحَقَّ:

حصر بضمير الفصل، فضلا عن تعريف الجزأين: "الذي أنزل"، و: "الحق"، والحصر، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، إما أن يكون إضافيا في مقابل مقالتهم الباطلة، فهو الحق لا ما يعارضونه به، فلا يلزم من ذلك أنه لا حق سواه، بل في بقية أجناس الكلام ما هو حق، وإن كان أحق أجناس الكلام بذلك الوصف على حد الاستغراق المعنوي لمعاني الحق الذي تدل عليه: "أل" الجنسية الاستغراقية، وإن كان أحق أجناس الكلام بذلك الوصف الشريف: كلام الباري عز وجل.

وإما أن يكون حقيقيا، فهو الحق في باب الإلهيات على حد الإطلاق، بخلاف بقية الكتب التي خالطها كلام البشر على حد التبديل والتحريف، فوحي الإسلام بنوعيه: المتلو وغير المتلو قد حفظ على حد قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، فـ: "أل" في الذكر: جنسية استغراقية لأجناس الذكر الإلهي: الكتاب العزيز والسنة المطهرة، وبهذه الآية استدل ابن المبارك، رحمه الله، على حفظ السنة إذ نقدها صيارفة علم النبوة نقدا أبان عنها الزيف، وتلك خصيصة الملة الخاتمة التي حفظت أصولها وفروعها من التحريف والتبديل، لئلا تبطل حجة الله، عز وجل، البالغة على عباده.

ومع كونه حقا خالصا ناصحا على ما تقدم من وصفه فهو:

يَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ: فهو تصور علمي صحيح يهدي الناظر فيه إلى الحكم العملي الصحيح بالسير على صراط العزيز الحميد، فإذا استقام على صراط التكليف في الأولى، استقام على الصراط في الآخرة، فالجزاء من جنس العمل، ولكل نتيجة مقدمات وفق ما سن الباري، عز وجل، من السنن الكونية والشرعية الجارية، فمن صح علمه ابتداء: صح عمله انتهاء، ومن خلص علمه من شوائب الباطل خلص عمله من شوائب الشرك، فالعلم النافع بكمالات الرب، جل وعلا، ذريعة إلى إفراده بأجناس العمل الصالح.

فهو الهادي إلى الصراط: هداية بيان لكل ناظر، وهداية توفيق لا ينالها إلا ذوو الحظ العظيم من المسددين الذين اصطفاهم الله، عز وجل، فكللهم بتاج العبودية الاختيارية: عبودية العابدين، عبودية: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)، فوافقت إرادتهم إرادة الرب، جل وعلا، الشرعية، متعلق محبته ورضاه فلهم من ذلك القسط الوافر، ووافقوا كبقية الكائنات المعبدة: إرادته الكونية النافذة، وذلك عين السعادة في الدارين: أن يجتمع في العبد قدر الكون النافذ وقدر الشرع الآمر، فذلك التلاؤم يظهر في حال من تلبس به، فأمره مطرد، وحاله مستقيمة، فلا اضطراب ولا عوج، بخلاف من عطل مقتضى الإرادة الشرعية من التكليف الإلهي، فعصى بمقتضى الإرادة الكونية النافذة، فإن أمره مريج على حد قوله تعالى: (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ)، فلما كذبوا بالحق بعد قيام الحجة ببلوغ الرسالة بمجيء الحق على لسان النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم: فسد تصورهم العلمي، فأداهم ذلك إلى فساد حكمهم العملي، فهم في أمر مختلط مضطرب، فعقد التوحيد في القلب قد انحل، وأعماله الباطنة قد شابتها شائبة التشريك والتنديد، وجوارحه من أعمال الظاهر معطلة، ويزداد الأمر

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير