تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

خير البرية لبلاغ خير أديان البرية، فالحمد لله، المستحق لكل ثناء ومدح، أن أنزل أمين أهل السماء على قلب أمين أهل الأرض بالوحي الذي صحت به العلوم الإلهية، وتقررت به الأحكام الشرعية، فزكت الأنفس وطهرت القلوب بما ورد عليها من أجناس العلوم الشريفة، وعمرت الجوارح بما شرع لها من الأعمال الصالحة، فقد كفانا ذلك مؤنة التفتيش عما تصلح به الأحوال من عقود القلوب الباطنة وأعمال الأبدان الظاهرة، فبمبعثه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أقيمت الحجة الرسالية بما جاء به من كمال التصور العلمي والحكم العملي فلم يبق لمحدث في الملل حجة، فلن يأتي مهما أوتي من قوة العقل وصفاء الذهن، بخير مما جاء به خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام.

وفي المقابل: لا تكون تلك الشبهات الطارئة في حق المتشكك إلا فتنة كونية تزيده حيرة واضطرابا لقلة بضاعته من العلوم الإلهية النافعة والأعمال الشرعية الصالحة، فبقدر إعراضه عنها تعظم حيرته، وذلك من شؤم هجر علوم النبوات الكاملات في نفسها المكملات المزكيات لمن تضلع منها على حد التذلل والافتقار إلى منزلها، جل وعلا، فبيده وحده صلاح الدين بظهور السنن الشرعية، وصلاح الدنيا بانتظام السنن الكونية.

فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ: فيرتفع الإجمال ويزول الإشكال بورود الناسخ المحكم على المنسوخ المتشابه، فيرد المحكم على المتشابه ورود القاضي على المقضي عليه، ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ: الشرعية بقرينة: "أمنيته"، أي: قراءته، على حد ما اختار كثير من المفسرين، على وزان قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)، والقراءة لا تكون إلا لآيات شرعية متلوة، والمضارع في: "فَيَنْسَخُ"، و: "يُحْكِمُ" آكد في تقرير قدرة وحكمة الرب، جل وعلا، بورود الناسخ على المنسوخ فينسخ ما شاء ويحكم ما شاء بمقتضى حكمته البالغة، لما لهما من دلالة الاستمرار والتجدد، كما أشار إلى ذلك أبو السعود، رحمه الله، ثم ذيل بما يلائم سياق رفع الآيات وإحكامها، من وصفي الحكمة والعلم: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، فهو بمنزلة الاحتراس لئلا يظن من قصر علمه أو فسد قصده أن ذلك أمر يوجب وصف الجهل أو السفه، بل النسخ من آكد الدلائل على العلم الإلهي الكامل والحكمة الربانية الباهرة، فالله، عز وجل، قد علم من أحوال عباده الصلاح بالعمل بالمنسوخ في زمانه، وعلم منها الصلاح بالعمل بالناسخ في زمانه، فاقتضت حكمته تبدل الأحكام بتبدل الأحوال، فالعلم ذريعة إلى الحكمة، إذ من يعلم الشيء ابتداء هو الذي يجريه على الوجه الذي به صلاحه، وذلك عين الحكمة، ولله المثل الأعلى، وقد أظهر الاسم الجليل وحقه الإضمار تربية للمهابة كما ذكر أبو السعود رحمه الله. وذلك أمر قد اطرد من كلامه، رحمه الله، في تفسيره حتى صار علامة من علامات درسه البلاغي البديع لآيات الكتاب العزيز.

ثم جاء النص على بيان الحكمة من ذلك النسخ:

لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ: فذلك من الجعل الكوني، فالضلال إنما يكون بقدره التكويني النافذ، كما أن الهداية كذلك، فهو فتنة لمن مرض قلبه أو قسا، وتنكير: "فِتْنَةً"، و: "مَرَضٌ"، على حد ما اطرد في هذه المواضع من التنكير تعظيما، فمقابل عظم المرض في قلوبهم اللاهية، يكون عظم الفتنة بورود تلك الشبهة.

ثم ذكرهم بوصف: "الظالمين" إمعانا في بيان حالهم وتعليقا للحكم المتقدم على الوصف الذي اشتق منه اسم الفاعل: "الظالمين"، على ما اطرد من إناطة الأحكام بالأوصاف المؤثرة.

وعلى حد المقابلة بين المتضادات كما اطرد في آي التنزيل:

وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ: فعلق الوصف، كما تقدم في مناسبة سابقة، على وصف العلم الإلهي الشريف، وجاء القصر بتعريف الجزأين إضافيا على تقدير: هو الحق لا ما يلقي الشيطان، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، وصدوره مِنْ رَبِّكَ: تعظيم لشأنه فعظمه من عظم من صدر منه.

فَيُؤْمِنُوا بِهِ: فذلك بوصف العلم الذي قام بهم أليق، فلهم السبق إلى كل مكرمة، فإيمانهم به على حد الفور الذي دلت عليه الفاء، وهو إيمان باطن يصح به التصور العلمي، فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ: بالانقياد والخشية والإذعانِ لما فيه من الأوامرِ والنَّواهي، كما ذكر أبو السعود، رحمه الله، فذلك جار على حد ما تقرر مرارا من التلازم بين العلم النافع والعمل الصالح سواء أكان ظاهرا أم باطنا.

وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ: فذلك من التذييل المعنوي المؤكد لمضمون ما تقدمه من حصول الهداية لهم، على حد البيان والانقياد والثبات، فهو هاديهم في الأولى إلى صراط الشرع، وهاديهم في الآخرة لاجتياز الصراط.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير