يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ: فهو منزل منزلة البيان الإضافي لنقض المواثيق، فلازم نقض ميثاق الوحي: إبطاله والاستعاضة عنه بالكلم المحرف الذي يجري على ألسنة أحبار ورهبان السوء الذين بدلوا اللفظ وحرفوا المعنى، فإن القلوب أوعية لا بد مملوءة فإما: وحي ناصح، وإما وحي قد شابه من أخلاط التحريف ما صيره فاسدا خبيثا لا يحصل به كمال الاغتذاء النافع، وإن حصل به نوع شبع، فتلك لذة آنية لا تعدل مضرة تلك الأغذية الفاسدة، التي تعطب الخلايا الإيمانية: إعطاب الأغذية الفاسدة للخلايا الجسدية، فجنس الإفساد واحد، إذ كلاهما على حد: الموت البطيء الذي تتراكم فيه السموم القاتلة في أنسجة الأديان والأبدان.
والإتيان بالمضارع مئنة من التجدد والاستمرار، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فلا زال التحريف إلى يومنا هذا كائنا، فتارة يصير الربا حراما، وتارة يصير ضرورة اقتصادية، وتارة تدين الكنيسة اليهود بتهمة قتل المسيح عليه السلام، وتارة تبرؤهم!، وكلا الأمرين: باطل، فلم ينالوا منه عليه السلام ما يكره، بل رفعه الله، عز وجل، إليه، على حد التكريم والاصطفاء.
وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ: فذلك من عطف اللازم على ملزومه، إذ الابتداع في الدين مظنة نسيان الأصل على حد الترك والإهمال، فالمبتدع يستحسن ما رآه بعقله أو ذاقه بوجدانه، فيهجر الوحي من أجله، وبقدر الابتداع والإحداث يكون الترك والنسيان، بل قد يصل الأمر إلى حد الخروج الكامل عن الملة.
وقد جيء به ماضيا، مئنة من وقوعه وانقضائه، فهو أمر لا يتكرر، فضلا عن دلالة الماضي على وقوع الأمر يقينا، فالتهمة قد ثبتت على حد الجزم القاطع.
وتنكير: "حظا": مئنة من التكثير والتعظيم، فحرفوا ألفاظا كثيرة، وأولوا معان عظيمة، فكان فساد ديانتهم بتكذيب الرسالة الخاتمة فرعا عن عظم تحريفهم للكتاب الأول.
وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ: فالمضارع، أيضا، مئنة من ذلك الطبع المتأصل في جنسهم، فالغدر لهم شيمة ثابتة، وما زالت البشرية تجد من أثر ذلك الخلق الذميم إلى يوم الناس هذا.
ثم استثنى على حد الإنصاف: إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ.
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ: فذلك من أمر الإرشاد تأليفا للقلوب، إن كانت المصلحة الشرعية المعتبرة في ذلك، وعلة ذلك: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. فذلك من التذييل بالعلة على حد شبه كمال الاتصال الذي حسن فيه الفصل للتلازم الوثيق بين العلة ومعلولها. فإذا صارت المصلحة الشرعية في الانتصار منهم بسيف الشرع الناصر، كما جرى يوم الأحزاب، زال حكم العفو والصفح، لزوال علته إذ المصلحة قد صارت في ضده، وذلك على قول المحققين من أهل العلم بكون نصوص العفو: منسوءة، فتدور مع علة الاستضعاف الموجب للعفو تأليفا، وعلة التمكين الموجب للقتال تأديبا، فهي منسوءة لا منسوخة بآيات السيف إذ إعمال الأدلة أولى من إهمالها.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[23 - 09 - 2009, 08:41 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)
ففيه تقديم ما حقه التأخير على شبه الاشتغال الذي يقع التكرار فيه مقدرا ومذكورا على حد قوله تعالى: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ) فهي على تقدير: وخلق الأنعام خلقها ففيه توكيد بالتكرار، وذلك مما يقرر المتعلِّق ويثبته في الذهن، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله.
وذكر وصفهم بـ: "نصارى" على حد الإغراء بلزوم الحق، إن جعل ذلك من معنى النصرة، فهو جمع: "نصراني"، على حد المبالغة كـ: شعراني ولحياني، فذلك مما يلهب الهمم لامتثال الأمر، كخطاب أصحاب الرسالة بوصف الإيمان تهييجا لهم على امتثال لازمه من فعل المأمور وترك المحظور.
فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ: فتنكير: "حظا": للتعظيم، فقد نسوا من دين المسيح أصله وفرعه!، واستبدلوه بما حسنته وقبحته عقول الرهبان والقساوسة، فذلك من التلازم بمكان، على حد ما تقدم من امتلاء الجوف: حسا أو معنى، بالطيب أو الخبيث، فإذا أشبع نهمته من أحدهما زهد في الآخر، وإن كان المزهود فيه: الطيب الأشرف جنسا ووصفا.
فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: فذلك من شؤم المعصية فهي ذريعة إلى وقوع الخلاف والفرقة، ففرقة الأبدان فرع عن فرقة الأديان.
ولا زال الخلاف بينهم إلى يوم الناس هذا، وإن ظهر من اتحادهم في حرب الإسلام وأهله ما قد يشعر باتحاد كلمتهم، فوصفهم في التنزيل: (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ).
وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ: فذلك من الخبر الذي أريد به إنشاء التهديد على حد قوله تعالى: (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ).
والله أعلى وأعلم.
¥