النقص المطلق للذات الناقصة.
وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ: فذلك مما اطرد من استحضار الصورة بإيراد المضارع، وفيه من التناسب: عطف الجملة الفعلية المضارعة على أخرى مثلها، فذلك أعلى درجات التناسب بين أطراف الكلام، واستعارة الظلمات لطرائق الضلال من الاستعارة التصريحية الأصلية، وقد جمعت على ما اطرد من تعددها بتعدد المقالات الأرضية، أو المقالات الإلهية التي طالتها يد التبديل والتحريف، فاختلفت مدلولاتها، بل قد وقع فيها التناقض تبعا لتباين عقول من بدل وحرف فكلٌ قد نسخ ما لم يرق له، وكل قد شرع ما يحلو له، وهذا أمر قد فشا في الديانة النصرانية على وجه الخصوص، إذ توسع قساوستها ورهبانها في النسخ حتى صار ذلك لنائب المسيح الأرضي!، فهو يملك من صلاحيات التشريع ما يضاهي به تشريع رب الأرباب، جل وعلا!، على حد قوله تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)، واستعير النور للهدى على نفس الحد من الاستعارة التصريحية الأصلية، وجاء مفردا إذ الحق واحد لا يتعدد، فالتوحيد دين المرسلين من آدم إلى خاتم النبيين عليهم الصلاة والسلام.
و: "أل" في: "الظلمات": جنسية استغراقية لأنواع الظلمات، فالشرع عاصم من كل أنواع الضلال العلمي والعملي، فهو داحض للشبهات العلمية، دافع للشهوات العملية.
وكذلك الحال في: "النور" فإن "أل" فيها: جنسية استغراقية لأنواع الهدى العلمي والعملي على الضد مما تقدم من الضلال، فالنور رافع للظلمة، والهدى رافع للضلالة، على حد: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)، فالحق ذاتي القوة لا يفتقر إلى زيف الزينة التي تخفي قبح الباطل، فمجيئه في حد ذاته مما يزهق به الباطل، كما أن مجرد سطوع نور علم النبوات مما يبدد ظلمة الجهالات.
وإخراجهم من ذلك إنما يكون بإذن الله، عز وجل، الكوني، فإن صحة آلات التكليف ليس بمغن عن صاحبه شيئا، إن لم يسبقه توفيق الرب العلي، جل وعلا، بخلق الاستطاعة الكونية التي يقع بها الفعل، فتظهر آثار قوى الاستطاعة الشرعية أفعالا في عالم الشهادة.
وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ: فذلك من التذييل بالتكرار توكيدا فالهداية إلى سبل السلام هي عين الهداية إلى الصراط المستقيم، كما ذكر ذلك أبو السعود، رحمه الله، فالتغاير في متعلق الهداية: "سُبُلَ السَّلَامِ"، و: "صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" قد نزل منزلة التغاير في الذوات، فحسن العطف، إذ الأصل فيه العطف بين المتباينات، فالتباين في المباني والمعاني بمنزلة التباين في الذوات.
قال رحمه الله:
"هذه الهداية عينُ الهداية إلى سبل السلام، وإنما عُطفت عليها تنزيلاً للتغاير الوَصْفيِّ منزلة التغايُر الذاتي كما في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} ". اهـ
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[25 - 09 - 2009, 03:53 م]ـ
ومن قوله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
فقد صدر الآية باللام وقد التحقيقية توكيدا لما دخلا عليه، وذكرهم بالضمير كناية كراهة ذكرهم بالاسم الصريح إمعانا في إنكار مقالتهم المجحفة بمقام الألوهية فصاحبها لا يستحق مجرد الذكر.
¥