تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وجاء قول أصحاب تلك المقالة: مؤكدا بـ: "إن"، وضمير الفصل واسمية الجملة وتعريف جزأيها، على حد ما عهد من الجاهل من تعصب لمقالته، وذلك التوكيد جار على ما اصطلح المناطقة على تسميته بـ: "حمل: (هو هو) "، إمعانا في التوكيد، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، كأن يقال من محمد؟، فتجيب إمعانا في التوكيد: محمد هو العالم، فهو هو لا غيره العالم، مبالغة في إثبات صفة العلم له، فحاصل مقالتهم كما أشار إلى ذلك صاحب "الكشاف" غفر الله له: "بتُّ القول على أنّ حقيقة الله هو المسيح لا غير".

فتعصبه فرع عن جهله، إذ لو كان له مسكة من علم أو عقل لأدرك أن تلك المقالة تنقض أصل الدين الذي بعث به الرسل عليهم السلام فكيف صح في القياس أن يظهر انتحال دين المرسلين وهو متلبس بعين الناقض له من التشريك، بل لازم مقالته: وصف الرب، جل وعلا، بصفات النقص البشري، إذ حل في ناسوت المسيح عليه السلام، مع ما له من صفات النقص البشري، فأي قدح في الرب، جل وعلا، أعظم من ذلك، إذ لا ينفك ذلك عن اضمحلال الصفات الفارقة بين الخالق والمخلوق، إذ امتزجا على حد الاتحاد، ففقد كل من وصفه للآخر بقدر امتزاجه به، فهو قول في غاية البطلان، فيه: جفاء في حق الرب، جل وعلا، إذ فقد من خصائصه الإلهية ما اكتسبه من صفات الناسوت البشرية!، وفيه في مقابل ذلك: غلو في حق المخلوق، إذ فقد من خصائصه البشرية ما اكتسبه من صفات الألوهية، فأي تخليط أعظم من ذلك؟!، ومع ذلك انتحل تلك المقالة فئام من البشر لهم من العقول ما اكتشفوا به من سنن الكون الدقيقة ما كان حريا بهم أن يستدلوا به على عظم قدر المعبود، جل وعلا، وكمال انفراده بوصف الذات والصفات، فلا يلحق ذاته نقص بحلول أو اتحاد بمخلوق فان، فله الكمال الأزلي الأبدي، فلا يعتريه ما يعتري البشر من عوارض النقص، وبذلك احتج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على وفد نصارى نجران، ولا يلحق صفاته نقص، إذ لو صحت مقالة السوء فيه، سبحانه، للزم من ذلك تغير وصفه من الكمال الإلهي إلى النقص البشري.

وفرعا عن تلك اللوازم المستقبحة:

جاء الاستفهام الإنكاري الإبطالي:

قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا:

فلا أحد يملك من الله، عز وجل، شيئا، إن شاء بكلماته التكوينية النافذة: إهلاك الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، وأطنب في معرض بيان طلاقة القدرة الإلهية على إهلاك كل الموجودات سواء وقع ذلك كمن هلك، أو لم يقع بعد كمن سيهلك فذلك مما كتبه الله، عز وجل، على كل البرية إظهارا لتفرده بوصف الحياة على حد الكمال المطلق، وذلك حد يحصل به التمايز بين جنس الربوبية القاهرة، وجنس المربوبات المقهورة، وإن كانت شريفة القدر، فكلها لقدره، عز وجل، خاضعة مستسلمة على حد الاضطرار، وكلها بشرعه ملزمة على حد الاختيار، فهو: الرب الخالق بحق الإله المعبود بحق.

ثم أطنب في بيان أوصاف الربوبية العامة في معرض إبطال ألوهية سواه، فهو من باب التعريض بعجز تلك الآلهة عن درك تلك الأوصاف فلو كان لها من ذلك شيء لاستحقت من التأله بقدره، ولكنها عنه عارية، إذ هي بضده من أوصاف المربوبات الخاضعة متلبسة:

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: على حد الاختصاص والاستحقاق بدلالة اللام فضلا عن تقديم ما حقه التأخير في السياق اللفظي، لا في المعنى العقلي، فتقدم ذكر الرب، جل وعلا، في أمر الربوبية بالخلق وسن الشرع، والألوهية بامتثال الأمر والنهي، تقدم ذكره في ذلك أمر من البداهة بمكان إلا عند من تلطخت فطرته التوحيدية بأدران الشرك، وفسد قياسه العقلي، فضلا عن ضلاله عن النقل الشرعي الذي جاء به الأنبياء عليهم السلام.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير