تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

، في معرض مدح الرب، جل وعلا، ونبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم!، فصار النطق بالفحش ديانة، وصار سماع تلك الأشعار أصلح لقلوبهم من سماع التنزيل، فالأول يثير أشواقهم والثاني ثقيل على أسماعهم!. والعشق لا ينفك عن نوع شهوة، ولذلك لا يقال إلا في معرض بيان ما يقع بين الأزواج، وذلك، أيضا، مما يفحش تصوره في باب الإلهيات، وقد وقع فيه أساطين الاتحاد كصاحب الفصوص، فجعل صفات الجمال الربانية متحدة بحسان الصور الأرضية، كما أن صفات الجلال الربانية متحدة بصور الجبابرة الفرعونية والنمرودية ........ إلخ. وكل ذلك الخطل إنما هو فرع عن إرادات عملية بلا مستندات علمية، فإذا اندرست آثار النبوات التي جاءت بتقرير وتفصيل تلك العلوم والأعمال والأحوال التي يقع فيها الإفراط والتفريط، فرعا عن الجهل بأقدارها وأوصافها الشرعية، إذا اندرست تلك الآثار تقرب كل بما يهواه، واستحسن كل ما يجد فيه لذته، عقلية كانت أو وجدانية، فأهل النظر في المعقولات يقدمون ما سنح لهم من أقيسة، وأهل الذوق يقدمون ما سنح لهم من خيالات وأوهام، ولكل طريقته في التأله، ولكل نصيبه من الضلال، بقدر بعده عن علوم النبوات الصحيحات.

فقالوا على حد القصر بتعريف الجزأين إمعانا في التوكيد على ما اطرد في الآية السابقة من نسبة وصف الألوهية إلى المسيح عليه السلام على حد الحصر والتوكيد، قالوا في تحكم واضح لا دليل عليه بل هو محض تعصب فرعا عن جهل مطبق: قالوا:

نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ: فمنطوقه: مدح النفس، ومفهومه: ذم الغير، فنحن فقط: أبناء الله فلا أحد غيرنا أحق بذلك الوصف الشريف، وإن كان ألزم منا بأحكام الرسالات العلمية والعملية، فالأمر عندهم: محض اصطفاء على حد اصطفاء الأنبياء، وذلك من الفساد بمكان، إذ اصطفاء الأنبياء على حد العصمة أمر قاصر لا يصح القياس عليه، فلا عصمة لأتباعهم إلا بالسير على طرائقهم العلمية والعملية، إذ فيها صلاح الدين والدنيا، فلا تستقيم حياة في الدار الأولى إلا بحكم النبوة، ولا تحصل نجاة في الدار الآخرة إلا بالإيمان بالرسل عليهم السلام على حد قوله تعالى: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ). فالحكم في حق الأنبياء: مطرد لا يتصور تخلفه، والحكم في حق أتباعهم: مطرد منعكس، فيتصور تخلف الحكم بتخلف علته، فهو دائر معها وجودا وعدما، فالعصمة حاصلة بموافقتهم، والزلل حاصل بمخالفتهم، فقياس ما يتصور تخلف الحكم فيه على ما لا يتصور تخلف الحكم فيه لمجرد الانتساب إلى النبي على حد الدعوى القولية بلا بينة عملية: قياس فاسد، فالشأن: اتباع أحكام الرسالات علما وعملا، لا إظهار الانتساب لها بلا انقياد لأحكامها، فذلك وصف كل محدث في الملل، فهو يظهر التعصب لمعظم من نبي أو إمام أو شيخ، وهو عند التحقيق، متلبس بنقيض ما دعا إليه ذلك المعظم إن كان من الأنبياء أو الصالحين.

وتأمل حال المنتسب إلى المسيح عليه السلام وقد أظهر من التعظيم الظاهر له بالقول ما نقضه بفساد علمه الباطن وعمله الظاهر، فدعواه في واد، وأفعاله في واد آخر، فهي ناقضة لما ادعاه من محبة، إذ لم يطع حبيبه، بل تلبس بعين ما يسخطه من الشرك الذي بعث بإبطاله بتقرير نقيضه من التوحيد: دين المرسلين الجامع.

وقوله: وَأَحِبَّاؤُهُ: احتراس، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، إذ من الأبناء من يسخط عليهم آباؤهم، فاحترسوا إمعانا في الدعوى بقيد المحبة، وهي كسابقتها دعوى تفتقر إلى البرهان.

ولذلك عقب بإبطالها على حد الاستفهام الإنكاري التوبيخي:

قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ، ثم أضرب انتقالا إلى تقريع آخر:

بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ: فذلك الحصر بتعريف الجزأين في مقابل حصرهم الأول، فجاء الرد عليهم على نفس الحد من التوكيد الناقض لدعواهم.

وفي هذا، كما يقول صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، تعريض أيضاً بأنّ المسيح بَشَر، لأنّه ناله ما ينال البشر من الأعراض والخوف، وزعموا أنّه ناله الصلب والقتل.

ثم أطنب في بيان وصفهم فـ:

يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ: بمقتضى قدرته وحكمته وعدله، فإيقاع المغفرة والعذاب إنما يكون بقدرته النافذة، فمن شاء إيصال المغفرة له فلا راد لها، ومن شاء إيصال العذاب له فلا راد له، واصطفاء من شاء من عباده لنيل مغفرته إنما يكون بحكمته الباهرة، فيختار من المحال القابلة للهداية على حد الإلهام من علم أزلا صلاح قلبه، والحكم على من شاء من عباده بالعذاب إنما يكون بعدله، فيصرف عن آياته من فسد قلبه فليس محلا قابلا لعلوم الوحي وأعماله، فالحكمة جارية، أيضا، بحجب مادة الصلاح عن محل فاسد لا ينتفع بها.

وجاء الاحتراس بذكر المغفرة، كما يقول صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، إبطالا لمقالة الخطيئة الأولى التي لوث بها من بدل دين المسيح عليه السلام النوع الإنساني من لدن آدم عليه السلام وإلى حصول الخلاص المزعوم بنزول الرب متدرعا بالناسوت أو نزول كلمته متجسدة في الأقنوم! لتصلب على خشبةٍ فداء للنوع الإنساني القابع في سجون إبليس عدو آدم اللدود!. وذلك قول يكفي إيراده في إبطاله، فإن من الجدال ما ينتهي قبل أن يبدأ لفساد عقل المجادل فلا يجدي معه إيراد البراهين العقلية.

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا: فذلك من التذييل الملائم لعموم قدرته على المغفرة أو العقاب.

وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ: على حد القصر بتقديم ما حقه التأخير فذلك، أيضا، جار على ما تقدم من التذييل بأوصاف ربوبيته القاهرة تأييدا لما تقدم من تمام قدرته على العباد: مغفرة بصفات جماله أو عقابا بصفات جلاله.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير