تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وعلق الفعل على وصف الربوبية، فذلك، في معرض الزجر، أليق، لعموم ربوبية الباري، عز وجل، لكل العالمين، فله من طلاقة القدرة ما يتصرف به في كل الكائنات، فهو القادر على منعك، وهو القادر على أخذك، وهو القادر على إنزال العقوبة بك، وقد كان، على حد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا).

إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ: فتلك علة أخرى، جاءت على نفس الحد من التصدير بالمؤكد: "إن" والفصل لشبه كمال الاتصال، وقد تفرع عنها:

فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ: فدلالة الفاء تفريعية عما سبق من العلل، وفيه من الوعيد ما يدل عليه التعقيب بذكر الجزاء بعد الفعل مباشرة، فذلك أبلغ في زجر الفاعل وكفه عن الفعل.

والإشارة بـ: "ذلك" جارية على ما تقدم من الوعيد فهي للبعيد: إما علوا في المكانة مدحا، وإما على الضد ذما، والسياق هو الذي يعين المراد، فدلالتها أشبه ما تكون بدلالة المشترك على معنييه، بل هي عند التحقيق من التضاد، وهو أشد أنواع الاشتراك إجمالا لتباين معنييه تباينا كاملا، فجاءت دلالة السياق اللفظية رافعة لذلك الإجمال، إذ سياق الوعيد مرجح لفظي معتبر لمعنى الذم والحط من شأن ذلك المصير.

وفيه قصر دل عليه تعريف الجزأين فذلك جزاء الظالمين، لا جزاء لهم سواه، وذلك جار على ما تقدم من الإمعان في الوعيد زجرا للفاعل لينكف عن عدوانه.

فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ: ففي ذلك، كما ذكر صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، استعارة تدل على عظم ما وسوست به نفس القاتل له، فكأنها قد صارت شخصا ماثلا في الخارج طوع للقاتل فعله وحسن له جرمه على حد ما يقع من شياطين الإنس، فقتله، وفي الفاء دلالة على سرعة استجابته لذلك الداعي، وفي ذكر المقتول بلفظ: "الأخ": مزيد تشنيع على القاتل، فليس جرمه قتلا فحسب بل هو قتل وقطيعة رحم.

وفي التقديم بذكر ذلك الداعي الذي طوع له ارتكاب تلك الجريمة نوع إطناب على حد ما تقدم من بيان فظاعة ذلك الجرم.

قال في "التحرير والتنوير":

"وقد سُلك في قوله: {فطوّعت له نفسه قتل أخيه فقتله} مسلكُ الإطناب، وكان مقتضى الإيجاز أن يحذف {فطوّعت له نفسه قتلَ أخيه} ويقتصر على قوله {فقتَلَه} لكن عدل عن ذلك لقصد تفظيع حالة القاتل في تصوير خواطره الشرّيرة وقساوة قلبه، إذ حدّثه بقتل من كان شأنه الرحمة به والرفق". اهـ

فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ: على حد التعجيل بالمساءة في معرض الوعيد بذكر الحكم بالخسران معطوفا بالفاء التعقيبية. فضلا عن كون: "من الخاسرين" أشد في النكاية من: "خاسرا"، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، وفيه ما تقدم من التعريض بمن سولت له نفسه ارتكاب ما ارتكبه ابن آدم الأول، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول.

فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ: بعثا كونيا على حد البعث قوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا).

لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ: فتعلمت البشرية سنة الدفن.

قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي: فذلك من الاستفهام الإنكاري في معرض تبويخ النفس، ولذلك ذيل بقوله:

فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ: فذلك أبلغ في الحسرة من: "نادما" على ما تقرر في: "من الخاسرين".

والله أعلى وأعلم.

ـ[مهاجر]ــــــــ[30 - 09 - 2009, 05:43 م]ـ

من قوله تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ):

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير