تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فتعلق الحق بالله، عز وجل، وبرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مئنة من عظمه، إذ مصلحة الجماعة العامة أجل قدرا وأعظم شأنا من مصلحة الأفراد الخاصة، وذلك أصل في علم المقاصد الشرعية، فالكل أولى بالاعتبار من الجزء، وبتر عضو فاسد خير من هلاك البدن بأكمله، فالمسألة عند التحقيق من باب تعارض المفاسد، فإن البتر لا يخلو من نوع مفسدة، ولكنها مغتفرة في مقابل ما يستدفع بها من مفسدة هلاك البدن بأكمله، فتلك مفسدة أعظم، فتستدفع المفسدة العظمى بالمفسدة الصغرى، وما يستجلب من منفعة بقاء بقية البدن فهو، أيضا، منفعة عظيمة، يغتفر في مقابلها، مفسدة بتر جزء منه.

وتلك من محاسن الشرعة الخاتمة التي جاءت لتحصيل أكبر قدر من المصالح ودفع أعظم قدر من المفاسد.

وقدم المسند إليه: "جزاء": إمعانا في التشويق، وعطف: "وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا" على: "يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ": عطف لازم على ملزومه، فلا تكون محاربة لله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا بمخالفة أمرهما، وذلك مظنة فساد الأديان والأبدان. وجعله صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله من باب: عطف الأسباب، فالعلة مركبة من كلا الأمرين. فيحاربون الله ورسوله بمخالفة الأمر الشرعي، ويتعدون على الغير، فالفساد: لازم في النفس متعد إلى الغير.

وضمن فعل: "يسعون": معنى المشي إذ حال المحارب التنقل، كما أشار إلى ذلك صاحب "الكشاف" رحمه الله، فينتشر بانتقاله الفساد في بقاع عدة، فذلك أدعى إلى حسم مادته.

وقيل بتضمينه معنى الفساد، فيكون: "فسادا": على حد التوكيد بالمصدر اللفظي.

وجعله بعض أهل العلم من باب الحال على تأويل "فسادا" بـ: "مفسدين"، فيكون الإتيان بالحال مصدرا من باب المبالغة في الوصف.

وإلى طرف من ذلك أشار أبو السعود، رحمه الله، بقوله:

"وقوله تعالى: {فَسَاداً} إما مصدرٌ وقع موقِعَ الحالِ من فاعل يسعون أي مفسدين أو مفعول له أي للفساد أو مصدر مؤكد ليسعون لأنه في معنى يفسدون على أنه مصدرٌ من أفسد بحذف الزوائد أو اسمُ مصدر". اهـ

ثم جاء المسند بصيغة المصدر المؤول فذلك جار على ما اطرد من كون المصدر المؤول أبلغ في الدلالة التوكيدية من المصدر الصريح فضلا عن دلالة: "أن" التي تمحض الفعل بعدها للمستقبل فذلك مئنة من اطراد الحكم وتجدده بوقوع علته من الإفساد في الأرض.

أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ: فالزيادة في مباني: "يُقَتَّلُوا"، و: "يُصَلَّبُوا"، و: "تُقَطَّعَ": مئنة من الزيادة في المعنى.

ودلالة: "أو": تخييرية على قول، أو: تنويعية على قول آخر، فتتنوع العقوبة بتنوع الجرم، وإليه أشار البغوي، رحمه الله، بقوله:

"وذهب الأكثرون إلى أن هذه العقوبات على ترتيب الجرائم لا على التخيير، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا إبراهيم بن محمد عن صالح مولى التوأمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قطاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، فإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض. (وفي سنده كلام).

وهو قول قتادة والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي رحمهم الله تعالى". اهـ

ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ: فذلك جار على حد المبالغة في النكاية باستيفاء شطري القسمة العقلية: الدنيا والآخرة، فلهم العقوبة المقدرة شرعا في الدنيا، ولهم العذاب العظيم في الآخرة، فالتنكير في: "خزي"، و: "عذاب": مئنة من التعظيم، والإشارة له بـ: "ذلك": جار على حد ما تقدم مرارا من الإشارة إلى ما انقضى من الكلام قريبا بإشارة البعيد، وفيه ما يؤكد عظم العقوبة الذي دل عليه التنكير المتقدم، وتقديم الجار والمجرور "لَهُمْ": جارٍ، أيضا، على حد المبالغة في النكاية، فلهم وحدهم لا لغيرهم على حد الاختصاص والاستحقاق: تلك العقوبات الدنيوية والأخروية، وهو جار مجرى القصر الإضافي في معرض التنفير من ذلك

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير