تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومن قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا: في معرض التنبيه، والخطاب كما اطرد في عامة الخطابات القرآنية، للمؤمنين ابتداء بحكم المواجهة، ولغيرهم بحكم المتابعة، إذ التكليف عام، فليس قصره على المؤمنين بمانع من دخول غيرهم فيه. وتعليق الحكم على وصف الإيمان تعريض بمن لم يؤمن، ففيه نوع حض لغير المؤمن على التزام وصف الإيمان رجاء تحقق حكم الفلاح الذي ذيلت به الآية، فإن العاقل لا يدع أمرا فيه مصلحة له: دينية أو دنيوية، عاجلة أو آجلة، دون أن يضرب فيه بسهم، فكيف بما فيه نجاته من، فالفلاح في دار الجزاء منتهى أمل العقلاء، ولأجله انعقدت ألوية الهمم العلمية والعملية رجاء تحصيل تلك المرتبة العلية مرتبة: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ)، فإنها دار لا نصب فيها ولا وصب، لا هم فيها ولا حزن، فأي عاقل يأبى دخولها والبقاء فيها على رسم الخلود؟!، وقد اقتضت الحكمة الربانية ألا يكون دخولها إلا تحت راية النبوة التي رفعت دليلا على طريق الهجرة، فالسائر لا يبلغ مأمنه إلا إذا كان الدليل أمينا عليما فصيحا، فيحصل من دلالته: كمال الهدى، إذ قصده صحيح، وعلمه عميق، ولسانه فصيح بلا تكلف فيبين عن المراد بعبارة وجيزة بليغة، وهكذا وصف الأنبياء عليهم السلام، فلا أحد أصدق عزما منهم، على حد قوله تعالى: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)، فتوجه العتاب إليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ قد بلغ من الحرص على هدايتهم ما أوقع نفسه به في نوع حرج، فجاء التخفيف في صورة عتاب فـ: (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ)، و: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)، فتلك هداية الإلهام الكونية التي اختص بها رب البرية، جل وعلا، بخلاف هداية الرسل عليهم السلام فهي: هداية الدلالة والإرشاد، فهم أعلام طريق النجاة، فالدين واحد والشرائع متعددة، وقد أحكم الدين من لدن آدم إلى خاتم المرسلين، ونسخت الشرائع بعضها بعضا حتى جاءت الشريعة الخاتمة بأكمل العلوم والأعمال، فصدقت ما سبق على حد الإجمال فأصول العقائد والأحكام والأخلاق واحدة، وبسطت أحكام الفروع على حد التفصيل، ففي الكتاب العزيز قواعد كلية جامعة، إلا مواضع جاء فيها التفصيل كآيات الشهادة والدين، وفي السنة: ثاني الوحيين: بيان لكثير من الفروع التي جمعت أزمتها تلك القواعد الكلية: أصولية كانت أو فقهية، فبقواعد الأصول: تستنبط الأحكام من أدلتها بمقتضى عرف اللسان العربي، وبقواعد الفقه: تلتئم الفروع تحت قواعد كلية تسهل ضبطها: حفظا وفهما.

فلا نجاة إلا بهداية الأنبياء، عليهم السلام، فهم الدليل الصادق الأمين، لمكان العصمة، فلا يكذبون ولا يخونون، وليس لهم في الملك أو السلطان أرب، وإنما أربهم هداية الخلق على رسم: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ).

وبعد النداء جاء التكليف على حد العموم:

اتَّقُوا اللَّهَ: بالتزام مراضيه واجتناب مساخطه. أو يقال: هو من السلب من باب التخلية إذ التقوى تكون غالبا بالانكفاف عن المساخط خشية التعرض للعقوبة.

وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ: فتلك: التحلية إيجابا بابتغاء الوسائل من سائر أعمال القلوب والجوارح، فـ: "أل" في: "الوسيلة": جنسية، فتعم كل أجناس الطاعة مما يتوسل به إلى مرضاة الرب، جل وعلا، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، و: "الوسيلة": فعيلة بمعنى مفعولة، فذلك من مجاز التعلق الاشتقاقي بتبادل الصيغ، فابتغاء الوسيلة إلى الله، عز وجل، إنما يكون بمفعولات العباد فهي المتوَسَّل به إلى الباري، عز وجل، فلا يخلو توسل مشروع من عمل للمكلف، فالتوسل بأسماء الله، عز وجل، الحسنى وصفاته العلى، دعاء يوقعه العبد على حد القربة، والتوسل بالأعمال الصالحة: توسل بعمل أوقعه من قبل، والتوسل

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير