تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وجاء التعقيب بالحكم على حد الأمر الجازم فلا صارف له عن الوجوب، إمعانا في الترهيب من تلك الجريمة التي شرع القطع فيها حفظا لضرورة دينية من الضرورات الخمس الكلية: ضرورة المال الذي هو عصب الحياة.

والخطاب لأولياء الأمور، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، بقرينة منع استيفاء غير أولي السلطان للحقوق العامة فتلك قرينة خارجية صرفت عموم الضمير في: "فَاقْطَعُوا" إلى خصوص أولياء الأمور من الأمراء والسلاطين، فصار من العام الذي أريد به خاص وذلك من المجاز المرسل عند من يقول بالمجاز، وقرينته ما تقدم من منع غير أولي السلطان من ذلك الأمر، إذ لو صار ذلك لعامة المكلفين، لشاعت الفوضى في الجماعة المسلمة، فلا يزجر إلا ذو سلطان اختياري أو جبري.

ومن يمنع المجاز فإنه على ما اطرد في هذه المسألة: يجعل الظاهر المصروف عن ظاهره العام إلى مؤول خاص، يجعله من قبيل الظاهر المركب الذي أزالت القرينة إجماله فصار نصا في بيان مدلوله على حد الحقيقة فلا حاجة إلى تكلف إيقاع المجاز وتقرير قرائنه سياقية كانت أو عقلية، فالظاهر بقيد التركيب من: لفظ محتمل لأكثر من معنى، وقرينة مرجحة لأحد تلك المعاني على حد يورث الطمأنينة في نفس الناظر يعادل النص الجازم الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا ابتداء.

وعلى ما اطرد في شريعة الإسلام من دفع المفسدة العظمى بالمفسدة الصغرى جاء إلحاق الفساد بالسارق بقطع أحد أعضائه دفعا لمفسدة أعظم، إذ شيوع السرقة مظنة اختلال النظام العام الذي يحفظ استقرار الجماعة المسلمة، وهو يجري، أيضا، مجرى تحصيل المصلحة العظمى الكلية بأمن الناس على أموالهم فتنتعش التجارات وتزدهر الأحوال، تحصيل تلك المصلحة بمفسدة صغرى جزئية في نفس فرد واحد من أفراد المجتمع أهدر حرمته بنفسه، فيده من العزة بمكان فلما سرقت ما يعادل ربع دينار صارت على النقيض: من الذلة بمكان!، فسبحان المعز المكرم للإنسان بالطاعة وأصل الخلقة، المذل له بالمعصية وانتكاس الفطرة.

وجاء الجمع في: "أيديهما" على حد جمع أفراد الأيدي السارقة، وجاءت التثنية باعتبار الجنسين: الذكر والأنثى، وذكرت الأنثى بعد الذكر، وإن كان الموصول دالا على العموم فتدخل فيه الأنثى بقرينة عموم التكليف، ذكرت بعده إمعانا في توكيد عموم الحكم لئلا يتطرق إلى الذهن قصره على الرجال فقط، وجاءت السنة العملية بقطع يد المخزومية السارقة التي شفع فيها أسامة، رضي الله عنه، جاءت لتؤكد ذلك العموم الذي استوفى أفراد الجنسين فالحكم عام لا مخصص له إلا ما جاء في السنة من قبيل درء الحدود بالشبهات كحال السرقة حال المجاعة فذلك من الحرج الذي تدرء به الحدود، وسرقة الابن من مال أبيه فله فيه حق غير معين يصح التذرع به إلى نفي الحد، والسرقة من الغنيمة إذ له، أيضا، منها نصيب غير معين يصح كونه ذريعة إلى درء الحد عنه، وذلك جار على ما اطرد من رحمة الشريعة الخاتمة التي ترفع الحرج عن المكلفين، فلا تستوي الأحكام في الرخاء وفي الشدة، ولا تستوي الأحكام في دار الإسلام وفي دار الحرب.

ثم جاء التعقيب بذكر العلة بلا فصل لشبه كمال الاتصال بين العلة ومعلولها، فكأن السامع قد تبادر إلى ذهنه السؤال المطرد في مثل تلك المواضع: وما علة ذلك؟، فجاء الجواب على الفور: جَزَاءً بِمَا كَسَبَا من العمل، فذلك من الكسب القرآني لا الكسب الاصطلاحي الذي قرره المتأخرون من أصحاب نظرية الكسب التي حاول أصحابها التوسط بين نفاة القدر والجبرية الذين غلوا في إثباته، فمالوا إلى قول الجبرية، بل قولهم عند التحقيق، شعبة من قول الجبرية إذ جعلوا العبد كاسبا لفعله بقدرة تقارن وقوعه دون أن تؤثر فيه أثر السبب في إيجاد مسبَّبه على وجه لا يخرج عن دائرة إرادة الرب، جل وعلا، الكونية النافذة، كما هو قول أهل السنة في باب القدر. فالكسب القرآني جارٍ على ما قرره أهل السنة من مذهب الصحابة ومن تلاهم من القرون الفاضلة في هذا الباب.

ثم جاء الإطناب في المساءة تنفيرا من تلك الجريمة:

نَكَالًا مِنَ اللَّهِ: فتنكيره مئنة من تعظيمه فضلا عن صدوره من الله، عز وجل، فعظمته من عظمة فاعله على حد العدل الإلهي المحكم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير