تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثم ذيل بأوصاف العزة والحكمة، لئلا يتوهم أن ذلك مما يقع بالقدرة النافذة لازم العزة، بلا حكمة شارعة، بل هو كسائر أحكام الرب، جل وعلا، جامع بين وصف الجلال ووصف الجمال ففيه من أوصاف الجلال ما يردع الجناة، وفيه من أوصاف الجمال ما يحمل الناظر فيه على التسليم لشرع رب العالمين الذي أتقن صنع الإنسان بدنا وروحا، وأنزل عليه الوحي شارعا حاكما، على ذات الحد من الإحكام والإتقان، فنعمه الكونية والشرعية على خلقه تترى، ومن تأمل شريعة الإسلام وجد فيها من الرحمة بالجنس الإنساني عموما: سواء وافقها فهو أعظم الناس منها نصيبا أو خالفها فلن يعدم منها خيرا تستقيم به حياته في دار التكليف وإن أخذ في دار الجزاء بجريرة مخالفتها بعد حصول البلاغ بها وقيام الحجة على صحتها ولزوم اتباعها، وجد فيها من الرحمة المذكورة قدرا لا يوجد في أي شريعة أرضية من وضع البشر ذوي العقول القاصرة والأفهام الضيقة التي لا تدرك إلا المصالح الآنية العاجلة ولو ترتب عليها من المفاسد الآجلة ما ترتب، فسبحان من أحكم الخلق كونا وأحكم الوحي شرعا، فهو الحكيم في كل أفعاله، إذ هو العليم بأحوال عباده على حد التفصيل، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ومن كان ذلك وصفه فلا يستحق منصب الألوهية الشارعة إلا هو، إذ لا رب يخلق بقدرته ويدبر بحكمته إلا هو، فذلك جار على حد ما تقرر مرارا من التلازم الوثيق بين نوعي التوحيد: توحيد الله عز وجل بأفعاله على حد الربوبية، وتوحيده بأفعال عباده على حد الألوهية.

وإظهار الاسم الكريم لفظ الجلالة: "الله" في موضع الإضمار في قوله تعالى: (نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، فتقديره على الإضمار: نكالا من الله وهو عزيز حكيم، ذلك الإظهار جار على ما تقرر مرارا من تربية المهابة في النفوس في معرض تقرير أوصافه كماله جل وعلا: جلالا وجمالا.

والله أعلى وأعلم.

ـ[مهاجر]ــــــــ[05 - 10 - 2009, 03:06 م]ـ

ومن قوله تعالى: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

فذلك عموم آخر في معرض الترغيب بعد الترهيب، فالآية الأولى قد جاءت في معرض بيان العقوبة، فكان ذلك ملائما لما تضمنته من الأمر الجازم بإنفاذ العقوبة، ولما ذيلت به من وصف العزة فهو من أوصاف الجلال التي يحسن إيرادها في معرض الزجر.

بينما الآية الثانية على حد الضد من الترغيب في التوبة، وذلك، أيضا، مما يلائمه العموم الذي دل عليه اسم الشرط: "من".

والعطف في قوله: (وَأَصْلَحَ): من عطف التلازم، إذ التائب بالقول لا ينفك عن صلاح في العمل، فهو بمنزلة الدليل على صحة توبته، وذلك أمر مشاهد في حال كثير من التائبين، فإنهم، لا سيما في أيام توبتهم الأولى، يكونون في حالة استنفار، إن صح التعبير، لقواهم العملية باطنة كانت أو ظاهرة، فقلوبهم قد باشرت أعمالا جليلة من خوف مشوب بالرجاء، وندم على ما فات، وعزم على عدم العودة إلى الذنب مرة أخرى، وتوكل على الباري، عز وجل، ليثبته، فلا تنتقض توبته وتنفسخ همته فيرجع إلى المعصية مرة أخرى، كما يقع لكثير من التائبين الذين يعتريهم الفتور بعد فورة التوبة الأولى، فيعودون إلى طريقتهم الأولى، فالقلوب بيد مصرفها إن شاء أقامها فضلا وإن شاء أزاغها عدلا، كما تقرر في مواضع سابقة، والأبدان بيد خالقها ومجري أسباب الحياة فيها فإن شاء نهضت إلى الطاعة فتية، وإن شاء أقعدها بما يعتري النفوس والأبدان من أسباب الفتور الذي لا يسلم منه مكلف، لا سيما بعد مواسم الطاعات، فقليل من يثبت على الطاعة، وقليل من لا تستهويه الشهوات فيقع في أجناس من التعدي ولو بالإفراط في المباحات على حد يورث قسوة في القلب وثقلا في البدن، والمسدد من كانت فترته إلى سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، على حد حديث عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، مرفوعا وفيه: "إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ فَمَنْ كَانَتْ شِرَّتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدْ أَفْلَحَ وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ"، وذلك معنى دقيق لا يتوصل إليه إلا بمباشرة أجناس من الأعمال القلبية من توكل وتجرد من

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير