الحول والقوة إلى حول وقوة الرب، جل وعلا، وتوسل إليه بأجناس الطاعات ألا يفسخ الهمم ويقعد الأبدان عن الطاعة بما اقترفته النفوس من معاص أورثت شؤما وذلا لا يرتفع إلا ببركة وعز الطاعة، فهي من الأسلحة الماضية في دفع ما يعرض للنفوس من كسل وملل، أو هم وحزن، إذ من بركتها أن تكون ذريعة إلى طاعة ثانية فثالثة، فضلا عما تورثه من نور في الوجه وقوة في البدن ومحبة في قلوب الخلق، كما أثر عن ابن عباس رضي الله عنهما، فتلك، أيضا، من المعاني الدقيقة التي لا تدركها حواس البدن الظاهرة وإنما ترصدها حواس القلب الباطنة.
ثم جاء التذييل بالحكم: (فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) على حد التوكيد بـ: "إن"، وتكرار الفاعل: معنويا مذكورا: المبتدأ لفظ الجلالة الاسم الكريم: "الله"، ولفظيا مقدارا على حد الاستتار في عامله: "يتوب"، فضلا عن دلالة المضارع على استحضار الصورة وتجددها فكلما أحدث العبد توبة أحدث الرب، جل وعلا، بمقتضى ما له من صفات الأفعال المتعلقة بمشيئته النافذة، أحدث قبولا لها:
فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ.
ثم جاء التذييل بالعلة على ما اطرد من التذييل بالعلة المصدرة بالمؤكد مفصولة عن معلولها فلا عاطف بينهما لشبه كمال الاتصال، فالتلازم العقلي بينهما وثيق.
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: وفي التذييل بأوصاف الجمال من المغفرة والرحمة مقابلة لما ذيلت به الآية السابقة من أوصاف الجلال من عزة وحكمة، فسياق الترهيب بتقرير العقوبة، كما تقدم، يناسبه وصف الجلال، وسياق الترغيب بتقرير المثوبة يناسبه وصف الجمال، فحصل الالتئام بين شطري كل آية على حد التذييل المؤكد لمضمون الآية، فآية الترهيب قد ذيلت بوصف الجلال المؤكد لمضمونها، وآية الترغيب قد ذيلت بوصف الجمال المؤكد لمضمونها، وحصل الالتئام بين الآيتين، إذ قد استوفيتا شطري القسمة العقلية في معرض بيان المآل فإما: عقاب وإما ثواب، وإما هلاك وإما نجاة.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[06 - 10 - 2009, 03:41 م]ـ
ومن قوله تعالى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
فذلك من قبيل الاستفهام التقريري إذ قد دخل الاستفهام على النفي، فأفاد ما أفاده دخول النفي على النفي من إثبات ضده من الإثبات، والتقرير في هذه الآية بمنزلة التذييل المعلل لما تقدم من عقاب العاصي وإثابة الطائع فذلك لا يكون بداهة إلا لمن له الملك التام والقدرة التامة على إيقاع وعيده عدلا أو وعده فضلا، وناسب ذلك التوكيد: تصدير الجملة التي سدت مسد مفعولي: "تعلم": بـ: "أن" المؤكدة، فضلا عن تقديم ما حقه التأخير: "له" على ما اطرد مرارا من دلالته على الحصر والتوكيد، ودلالة: "أل" الجنسية في: "السماوات" و "الأرض" على استغراق أفراد ما دخلت عليه، وبعد التوطئة بوصف الملك وهو من أوصاف الجلال: جاء الخبر الثاني للناسخ: جملة فعلية: "يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ" مئنة من التجدد والحدوث، كما دلت على ذلك صيغة المضارعة: "يُعَذِّبُ" و: "وَيَغْفِرُ"، إذ أوصاف التعذيب والمغفرة من صفات أفعاله، جل وعلا، التي يحدث من آحادها ما شاء كيف شاء إذا وجدت أسبابها فهي من صفات الأفعال المسبَّبة، كالرضى والسخط، فمراضي الرب معلومة وكذلك مساخطه، فمتى وجد سبب رضاه، جل وعلا، رضي عن عبده فضلا، ومتى وجد سبب السخط: سخط عليه عدلا، فيقال كذلك في المغفرة والتعذيب، إذ هما بمنزلة أثر وصفي: الرضا والسخط فلهما حكم أصلهما.
وقدم وصف التعذيب من باب اللف والنشر المرتب باعتبار تقدم آية الوعيد أولا فآية الوعد ثانيا، فراعي ترتيبهما في سياق الآية التالية لهما كما أشار إلى ذلك أبو السعود رحمه الله.
والاستفهام في معرض التقرير جواب لسؤال مقدر تولد في ذهن المخاطب عن انقلاب حال السارق من العقوبة في الآية الأولى إلى ضدها من المغفرة في الآية الثانية، فجواب ذلك: قدرة الله، عز وجل، النافذة، وهي، كما تقدم مرارا، لا تكون إلا مشفوعة بالحكمة البالغة، فليس العقاب والثواب بلا ضابط، بل قد اقتضت حكمة الرب، جل وعلا، أن وضع للعقاب أسبابا يصير مباشرها أهلا له، ووضع للثواب على ذات الحد: أسبابا يصير مباشرها أهلا له، فيعاقب العاصي عدلا، ويثيب الطائع فضلا.
وإلى طرف من ذلك أشار صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، بقوله:
"وهذا استئناف بياني، جواب لمن يسأل عن انقلاب حال السارق من العقاب إلى المغفرة بعد التّوبة مع عظم جرمه بأنّ الله هو المتصرّف في السماوات والأرض وما فيهما، فهو العليم بمواضع العقاب ومواضع العفو". اهـ بتصرف
ثم ذيل بقوله: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: فهو بمنزلة المؤكد لما تقدم من عموم ملكه، جل وعلا، فهو ملك القادر لا ملك العاجز الذي قد يملك عين الشيء ولا يملك التصرف فيه على حد ما نرى في عالم الشهادة في الممالك التي يملكها ملوك ليس لهم من الأمر شيء على طريقة: الملك الذي يملك ولا يحكم، فالسلطات الحقيقية بيد رئيس الوزراء!.
وإظهار الاسم الجليل: "الله" جار على ما تقدم مرارا من تربية المهابة في نفس المخاطَب، فالسياق قد غلبت عليه أوصاف الجلال التي تتعلق بها النفوس على حد الرهبة.
والله أعلى وأعلم.
¥