تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ: فأثبت لهم الإيمان ادعاء ظاهرا بالأفواه، وإنما قالوه بالألسنة مئنة من توكيد الدعوى مع كونها كذبا في نفس الأمر، فذلك من المجاز المرسل عند من يقول بوقوع المجاز في التنزيل: إذ أطلق الكل وأراد البعض، ومن ينفي وقوع المجاز في الكتاب العزيز فإنه يقول بأن السياق قد دل على المراد، فالكلام إنما يقع باللسان بداهة وإنما عدل عنه إلى الفم للنكتة البلاغية آنفة الذكر.

ونفاه عنهم حقيقة باطنة، فطباق السلب بين إثبات الإيمان ونفيه باعتبار اختلاف المحال، فالقائم باللسان دعوى الإيمان، والقائم بالقلب نقيضه من الكفران، وذلك من القبح الشرعي والعقلي بمكان، إذ فيه إظهار لما ليس في المظهر من خلال الخير المحمودة، فذلك من التشبع بما لم يعطه، بل ليته كان خلوا من ضده، بل هو متشبع بضده من خلال الشر المذمومة.

ثم ذكر الجنس الثاني، وهو جنس: اليهود الذين حرفوا الكتاب الأول فغيروا وصف النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

وأطنب في بيان خصال الشر فيهم في معرض الذم لهم:

سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا: فجاءت على حد الفصل بلا وصل بعاطف لشبه كمال الاتصال بينها وبين الموصوف بها، إذ وصف الشر للكل جامع.

ووصفهم بسماع الكذب على حد المبالغة آكد في تقرير الذم.

فحالهم، كما ورد في سبب نزول الآية، كحال كل صاحب هوى يقبل الشرع إذا وافق هواه، ويرده إذا خالفه، بدعوى تعارض العقل مع النقل، فيقدم ما استحسنه بعقله أو ذوقه على ما جاءت به الرسالات، فبراهين عقله المضطرب وذوقه الفاسد: قطعية جازمة ونصوص الشرع المنزلة: ظنية محتملة، والقطعي يقضي على الظني، فتتعدد الأقوال بتعدد العقول والأذواق ولكل محرف في أمر الديانة من الذم الذي ورد في الآية نصيب، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقدم في أكثر من موضع، فمن بدل الشرع لحظ نفسه أو لحظ غيره من سلطان جائر يتزلف إليه بالكذب على الوحي المعصوم كحال علماء السوء في كل الأعصار والأمصار ممن قست قلوبهم تجبرا على أهل الطاعة ولانت تذللا ومهانة لأهل المعصية، ككثير من أصحاب العمم في زماننا!، أو متبوع يخشى فقد تعظيمه وتوقيره كحال أصحاب الطرائق الذين يتألفون قلوب أتباعهم بمسايرتهم على أهوائهم ولو كانت على خلاف الشرع المنزل، فيخشون سطوة المخلوق ولا يخشون سطوة الخالق، عز وجل، من كان هذا حاله فله من الذم الوارد في الآية أوفر قسط وأعظم نصيب وما ربك بظلام للعبيد، ومن التمس رضاهم فهم عليه ساخطون لا محالة، فله نقيض ما أراد: سنةً كونية جارية بمقتضى عدل وحكمة الرب جل وعلا.

وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا: فذلك شرط قد سيق مساق المساءة لهم إذ قد سبق في قدر الله، عز وجل، الكوني الحكم بإضلالهم عدلا، فقلوبهم ليست بمحال صالحة لقبول آثار رحمة الرسالات النازلة، فهي أرض بوار، لا تنبت فيها بذرة الإيمان، ولو تعهدها الدعاة بكل أنواع هداية الدلالة والإرشاد، فـ: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، فنفى الهداية عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على حد الإلهام، وأثبتها له، عز وجل، فطباق السلب مئنة من كمال اتصافه، جل وعلا، بتصريف القلوب على الطاعة فضلا، أو المعصية عدلا، فليس ذلك لغيره من ملك مقرب أو نبي مرسل.

فأراد الله، عز وجل، فتنتهم، كونا، فلا راد لإرادته الكونية النافذة، وإن أراد شرعا هدايتهم فبعث فيهم النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأيده بأجناس البراهين النقلية والعقلية التي تدحض حجة المخالف وتذهب بشبهاته السخيفة ذهاب الريح بالريشة الخفيفة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير