وما ذلك إلا لحكمة أعظم من مصلحة هدايتهم، فإن الحكيم هو الذي يضع الشيء حيث يصلح، فلا يغرس البذرة في محل غير قابل، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فكان إضلالهم إظهارا لوصف حكمة الرب، جل وعلا، الذي يضع الإيمان في القلوب القابلة له، ويحرمه القلوبَ الرافضة له، التي أعرضت عن قبول آثار الوحي النافعة، فعوقبت باستبدالها الذي هو أدنى من الشبهات والشهوات والإرادات الفاسدة والأحكام الجائرة بالذي هو خير من علوم وأعمال وأحكام الوحي النافعة، وكان إضلالهم مئنة من علم الرب، جل وعلا، الذي علم أزلا فساد قلوبهم فحجب عنها الإيمان بمقتضى عدله وحكمته، وكان إضلالهم مئنة من قدرته إذ خلق المؤمن والكافر، المهتدي والضال، فخلقُ المتضادات من أخص أوصاف رب البريات، جل وعلا، وكان إضلالهم استخراجا لمادة الخير من نفوس أعدائهم من أتباع الرسالات، إذ اقتضت سنة التدافع سن الأقلام وسل السيوف ذبا عن العقائد والشرائع، فحصل بذلك من مراضي الرب، جل وعلا، الكلية ما يفوق تلك المفسدة الجزئية بحجب الهدى عن فئام من الضُلاَّل ليسوا له بأهل ابتداء، فلا كرامة لهم ليؤبه لحالهم.
ثم ذيل بما يؤكد ما تقدم من انتفاء إرادة الخير بهم كونا:
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ: فأشار إليهم بـ: "أولئك" مئنة من بعد منزلتهم دنوا، بخلاف: "أولئك" في نحو قوله تعالى: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، فهي مئنة من بعد منزلتهم علوا، فلم يرد تطهير قلوب نجاستها على حد نجاسة الكلب: ذاتية لا تطهر إلا بالاستحالة!، فبذل أسباب التطهير لها غير جار على سنن الحكمة، إذ ذلك كغسل الكلب بالماء أو التراب أو ما شئت من المطهرات فليس ذلك بمطهر له، ولو حرصت، فكذلك قلوب أولئك الذين حكم الله، عز وجل، عليهم أزلا، بالضلال، فلا تجدي أسباب الهداية معهم شيئا، وإنما غايتها أن تقام بها الحجة الرسالية عليهم.
ثم ذيل ثانية على حد الفصل للتلازم الوثيق بين الجزاء والعمل:
لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ:
فالمساءة فيه كائنة من جهة استيفائه لشطري القسمة العقلية الزمانية، فلهم في الأولى: خزي قد نكر تعظيما، ولهم في الآخرة عذاب قد نكر، أيضا، على حد التعظيم، وزيد في بيانه أن ورد النص على عظمه صراحة. فضلا عن تقديم ما حقه التأخير في: "لهم"، وإعادته: "لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ" من باب الإطناب بالتكرار توكيدا.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[08 - 10 - 2009, 06:25 م]ـ
ومن قوله تعالى: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)
ثم أطنب في ذمهم على حد المبالغة في سماع الكذب وترديده إذ لازم الإصغاء إليه على حد المبالغة: التشبع به ومن ثم ترديده في كل مجلس وناد، وذلك أمر مشاهد ممن سمع مقالة حادثة، ولم يكن له من العلم ما يعصمه منها، فقضى الله، عز وجل، عليه كونا، بجعله بوقا يردد ما لو فقه معناه لتمنى قطع لسانه قبل جريان مبناه عليه، والمعصوم من عصمه الباري عز وجل.
وإلى طرف من ذلك أشار صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، بقوله: "وفي هذا، (أي في: المبالغة في: "سماعون")، كناية عن تفشّي الكذب في جماعتهم بين سامع ومختلق، لأنّ كثرة السمع تستلزم كثرة القول". اهـ
فالإطناب هنا، كما ذكر صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، جار مجرى التوكيد لما تقدم في الآية السابقة والتمهيد لما هو آت من وصفهم بـ:
"أكَّالون للسحت".
وهم مع ذلك أصحاب رياسات يتأكلون بدينهم سحتا، فجاء وصف المبالغة هنا، أيضا، إمعانا في إثبات الجناية المستوجبة للذم والعقاب، فيضلون أتباعهم بمقالات يعلمون بطلانها جزما، فلا مستند لها من نقل أو عقل، ولا عاقل مسدد، إلا من رحم ربك، يسألهم: من أين لكم هذا؟ وما مستندكم في تقرير مسائل الديانة؟!، أوحي معصوم أم عقل مخبول؟!.
¥