ـ[مهاجر]ــــــــ[11 - 10 - 2009, 07:28 م]ـ
ومن قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)
فالتوكيد بـ: "إن"، ونسبة فعل الإنزال إلى الرب، جل وعلا، على حد التعظيم الذي دلت عليه: "نا" الدالة على الفاعلين، مئنة من عظم المنزل، والفعل بمادته دال على النزول جملة على ما اطرد في كلام أهل العلم من نزول الكتب المتقدمة جملة واحدة، كما يظهر من دلالة الإشارة في قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)، ففيه إشارة خفية في معرض تشكيكهم في التنزيل المتفرق إلى نزول الكتب الأولى إنزالا مجملا بلا تفريق فلم امتاز عنها الكتاب الآخر بتفرق نزول آياته، إذ نزل منجما؟!، فجاء التذييل بعلة ذلك دحضا للشبهة الطارئة، إذ ذلك آكد في تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بتوالي التنزيل عليه، وذلك مما تدحض به الشبه الطارئة، ويجاب به عن النوازل العارضة.
و: "أل" في التوراة، إما أن يراد بها: التوراة المعهودة فتكون عهدية ذهنية، وإما أن تكون جنسية استغراقية لعموم الكتب المتقدمة فعموم اسم التوراة يشملها، كما أشار إلى ذلك ابن القيم، رحمه الله، في معرض ذكر وصف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الكتب المتقدمة، في "هداية الحيارى" بقوله:
"وقوله، (أي: عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، في معرض بيان وصفه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في التوراة): "إن هذا في التوراة" لا يريد به التوراة المعينة التي هي كتاب موسى، فإن لفظ التوراة والإنجيل والقرآن والزبور يراد به الكتب المعينة تارة، ويراد به الجنس تارة، فيعبر بلفظ القرآن عن الزبور، وبلفظ التوراة عن القرآن، وبلفظ الإنجيل عن القرآن أيضاً.
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "خفف على داود القرآن، فكان ما بين أن تسرج دابته إلى أن يركبها يقرأ القرآن"، فالمراد به: قرآنه وهو الزبور، وكذلك قوله في البشارة التي في التوراة: "نبياً أقيم لبني إسرائيل من إخوتهم، أنزل عليه توراة مثل توراة موسى"، وكذلك في صفة أمته صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة: "أناجيلهم في صدورهم".
فقوله: أخبرني بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. إما أن يريد التوراة المعينة، أو جنس الكتب المتقدمة.
وعلى التقديرين فإجابة عبد الله بن عمرو بما هو في التوراة أي: التي هي أعم من الكتاب المعين، فإن هذا الذي ذكره ليس في التوراة المعينة، بل هو في كتاب أشعياء". اهـ
"هداية الحيارى"، ص108.
وقدم ما حقه التأخير في: "فيهَا هدى" على ما اطرد من دلالة ذلك على الحصر والتوكيد في معرض المدح، فضلا عن تنكير: "هُدًى"، و: "نُورٌ" فذلك جار على حد التنكير تعظيما، وذلك جار، أيضا، على حد القصر الادعائي إذ ليس الهدى والنور بمحصور حقيقة في التوراة، بل أعظم أجناس الهدى والنور في الكتاب الآخر، فهو المهيمن على ما سبقه من الكتب، الحاوي لزبدة أخبارها وأحكامها.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"وَهَكَذَا الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ قَرَّرَ مَا فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ الْخَبَرِ عَنْ اللَّهِ وَعَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَزَادَ ذَلِكَ بَيَانًا وَتَفْصِيلًا. وَبَيَّنَ الْأَدِلَّةَ وَالْبَرَاهِينَ عَلَى ذَلِكَ وَقَرَّرَ نُبُوَّةَ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ وَرِسَالَةَ الْمُرْسَلِينَ وَقَرَّرَ الشَّرَائِعَ الْكُلِّيَّةَ الَّتِي بُعِثَتْ بِهَا الرُّسُلُ كُلُّهُمْ. وَجَادَلَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ بِأَنْوَاعِ الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ وَبَيَّنَ عُقُوبَاتِ اللَّهِ لَهُمْ وَنَصْرَهُ لِأَهْلِ الْكُتُبِ الْمُتَّبِعِينَ لَهَا وَبَيَّنَ مَا حُرِّفَ
¥