فيحكمون بما توجه إليهم الخطاب بحفظه، كما دل على ذلك الطلب المستدعي بـ: الألف والسين والتاء، على حد ما قرر الصرفيون، ففيه زيادة توكيد لمعنى الأمر بالحفظ بزيادة مبناه اللفظي.
وكتاب الله: إما أن يراد به المذكور آنفا وهو التوراة، فيكون من قبيل المعهود المذكور أو يراد به جنس ما كتبه الله، عز وجل، من الشرائع والأحكام، سواء نزل بها الوحي على حد الكتب أو جرت على ألسنة الرسل عليهم السلام، على حد السنن، فيكون المصدر على هذا التقدير نائبا عن عامله على تقدير: "بما استحفظوا مما كتبه الله، عز وجل، عليهم من الشرائع والأحكام"، وإليه أشار الشاطبي، رحمه الله، بقوله:
"والخامس، (من عشرة أمثلة سردها في معرض التمثيل لتفاوت الأفهام في إدراك معاني النصوص الشرعية): قول من قال - فيما جاء في الحديث أن رجلا قال: يا رسول الله نشدتك الله إلا ما قضيت بيننا بكتاب الله فقال خصمه وكان أفقه منه صدق اقض بيننا بكتاب الله وائذن لى في أن أتكلم ثم أتى بالحديث
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذى نفسى بيده لأقضين بينكما بكتاب الله أما الوليدة والغنم فرد عليك وعلى ابنك هذا جلد مائة وتغريب عام وعلى امرأة هذا الرجم إلى آخر الحديث - هو مخالف لكتاب الله لأنه قد قال لأقضين بينكما بكتاب الله حسبما سأله السائل ثم قضى بالرجم والتغريب وليس لهما ذكر في كتاب الله.
الجواب: إن الذى أوجب الإشكال في المسألة اللفظ المشترك في كتاب الله فكما يطلق على القرآن يطلق على ما كتب الله تعالى عنده مما هو حكمه وفرضه على العباد كان مسطورا في القرآن أو لا كما قال تعالى: (كتاب الله عليكم) أي حكم الله فرضه وكل ما جاء في القرآن من قوله: (كتاب الله عليكم) فمعناه فرضه وحكم به ولا يلزم أن يوجد هذا الحكم في القرآن". اهـ
"الاعتصام"، ص607.
وقوله: (وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ): فذلك آكد في توجه الذم إليهم إذ قد بدلوا ما توجه إليهم التكليف بحفظه ومراقبته، وذلك، أيضا، معنى عام، فالذم موجه لكل من استشهد على حفظ الدين فضيعه بكتمان أو تحريف.
فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ: فيه التفات والخطاب لرؤساء اليهود خصوصا، وهو عام في حق غيرهم بطريق الدلالة لا العبارة كما أشار إلى ذلك أبو السعود رحمه الله.
وَلَا تَشْتَرُوا: فذلك من عطف اللازم على ملزومه، إذ من خشي الناس خشي انقطاع ما يصله من هباتهم وعطاياهم، فيحمله ذلك على تبديل الكتاب بما يوافق أهواءهم، كما يقع من اللصوص المترسمين برسم العلماء ممن طرقوا أبواب السلطان طرق السائل الذليل لا الناصح الأمين.
وفي السياق: استعارة الشراء للاستبدال فذلك آكد في بيان الصورة المعنوية المعقولة بقياسها على صورة حسية معهودة. وهي استعارة تصريحية للفظ "تَشْتَرُوا" لمعنى: "تستبدلوا".
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ: فذلك جار مجرى الشرط في معرض الوعيد والتحذير، فحسن إيراده مورد العموم إذ الأصل في باب: الوعد والوعيد: العموم، وفيه إشارة، على ما اطرد في نصوص الجزاء الخبرية وعدا أو وعيدا، فيه إشارة لإنشاء الأمر بالمذكور والنهي عن ضده لزوما إن كان السياق مدحا، والنهي عن المذكور والأمر بضده لزوما إن كان السياق ذما.
وجاء الجواب مؤكدا على ما اصطلح بتسميته: حمل: (هو هو)، أي: هم لا غيرهم الكافرون على حد القصر الادعائي تنفيرا مما استوجب لهم هذا الحكم الشرعي، والكفر في هذا السياق محمول على الكفر الأكبر باعتبار الأعم الأغلب، فأغلب صور الحكم بغير ما أنزل الله، عز وجل، من الشرائع والأحكام، من الكفر الأكبر الناقل عن الملة، إلا صورة تبديل حكم جزئي في معرض تحقيق المناط في الدعوى لا تقريره على حد الشرع الملزم في كل قضية، فهي مخالفة جزئية في قضية بعينها دون مساس بالأصل الكلي الذي تندرج تحته، فهذه الصورة من صور الكفر الأصغر، ورسالة الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار النجدية السابق، رحمه الله، "تحكيم القوانين الوضعية" على وجازتها قد كفت وشفت الأدواء في هذا الباب الشائك، وهذا التقرير جار على حد التكفير المطلق المتعلق بالأوصاف، أما تكفير المعين الذي فيه يحقق مناط الحكم في أعيان المحكوم عليهم
¥