فالإنزال على حد التعظيم، كما تقرر مرارا في هذا السياق، و: "أل" في الكتاب: عهدية ذهنية تشير إلى معهود بعينه هو الكتاب الآخر الذي نسخت به الكتب الأولى، فـ: "أل" في: "الكتاب" الثاني: جنسية استغراقية لعموم الكتب المنزلة، فالكتب يصدق بعضها بعضا إذ من الرب الواحد قد صدرت، فجاءت بأصدق الأخبار وأعدل الأحكام وأكمل السياسات والأخلاق والأحوال، كما تقدم مرارا، فيكون ذكر الكتابين بلفظ واحد على حد الجناس المطابق، وقد أطنب في وصف الكتاب الآخر بالحالين: "بالحق": فلا مفهوم له إذ هو على حد الوصف الكاشف لكماله، فلا يوجد كتاب منزل بالباطل ليقال بالمفهوم فذلك من فساد المعنى بمكان، والحال الأخرى: "مصدقا"، على حد الفصل، وعطفت عليه حال أخرى: (ومهيمنا): فذلك وصفه: حق في نفسه، مصدق لغيره، جامع لزبدة العلوم والأعمال، فهو المهيمن على ما سواه من الكتب السماوية، إذ الناسخ المحكم رافع للمنسوخ، على اصطلاح بعض أهل العلم في تعريف المحكم والمتشابه، فالتعبد بالمنسوخ بعد نسخه باطل سواء أكان من الكتاب الحالي كالتعبد بما نسخ حكمه، أو من الكتب السابقة التي نسخ الكتاب العزيز ألفاظها، وجملة من أحكامها، ووافقها في جملة حكاها على حد الإقرار، فذلك محل إجماع، أو على حد البيان لشرائع الأولين مع وجود الناسخ لها في رسالة النبي الأمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلا يصار إليها بحال، وهذا، أيضا، محل إجماع، وإنما وقع الخلاف فيما حكاه الكتاب العزيز ولم يشر إليه بإثبات أو نفي، فاستدل الشافعي لإهماله بما هو آت في الآية من قوله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)، فتقديم ما حقه التأخير مئنة من الاختصاص فلكل شرعة تلائم حاله، إذ لا تستوي الأمم في أخلاقها النفسانية وأخلاقها الجسدية ليستوي التكليف في حقها فلكل أمة خصائصها، ولكل أمة شرعة ومنهاج يلائمها.
وبعد الإطناب بذكر أوصاف الكتاب العزيز جاء التذييل بما يترتب على تلك الأوصاف من الأحكام، فالفاء مئنة من ذلك فضلا عما لها في هذا السياق من دلالة على الفور ابتداء، وهو ما يدل على وجوب الامتثال، بل المسارعة في ذلك، فضلا عن ترجيح جمهور الأصوليين: دلالة الأمر المجرد من القرائن الصارفة على الفور، فـ:
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
وقد تقدم أن ذلك مما قيل بنسخه التخيير في آية: (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ)، وجعله صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله من قبيل البيان لا النسخ، وإنما ورد بلفظ النسخ في كلام السلف، على ما اطرد من معناه اللغوي لا معناه الاصطلاحي الحادث بعد زمانهم، فكل صور البيان من: رفع للحكم، أو تخصيص، أو تقييد ......... إلخ، كلها في اصطلاح المتقدمين: نسخ. والخلاف يسير إذ المؤدى واحد لا سيما بعد انقضاء زمن الرسالة فقد استقرت الأحكام فلا زيادة ولا نقصان، لانقطاع خبر السماء.
والخطاب في: "ولا تتبع": إلى الأمة في شخص نبيها صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمكان عصمته، على ما تقرر في أكثر من موضع، إذ هو جار على وزان قوله تعالى: (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ): وذلك منهم محال كما أن اتباع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأهوائهم محال، بل لما كاد يركن إليهم شيئا قليلا على حد الاستئلاف لقلوبهم لا المداهنة في الديانة، ثبته الوحي، فـ: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا)، وذلك العتاب مما يؤكد أن هذا الكتاب من عند الله، عز وجل، فلو كان من عند النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما يزعم فجرة وملاحدة الأمم لكتم ذلك العتاب في هذا الموضع وفي نحو صدر سورة "عبس".
والجعل في قوله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا): تقدير شرعي، على ما تقدم من اختصاص كل أمة بشريعتها العلمية ومنهاجها العملي، وذلك مستند الشافعي، رحمه الله، ومن تابعه كابن حزم والألباني، رحمهما الله، في منع كون شرعة من قبلنا شرعة لنا، وأجيب عن ذلك بآيات من قبيل: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ)، والخلاف مبسوط في كتب الأصول.
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ:
فالجعل هنا كوني بخلاف الجعل السابق بقرينة التصدير بالمشيئة ولا تكون إلا كونية نافذة، وبعدها جاء التذييل بعلة ذلك: إذ بالشرائع يقع الابتلاء فلكل أمة، كما تقدم، ابتلاء بتكليف شرعي يلائم أحوالها بل الأمة الواحدة تبتلى بتكليف في زمان ويسقط عنها بالنسخ في زمان تال إذ الحكمة في إعماله زمن إحكامه وفي إهماله زمن نسخه، فذلك جار على سنن الحكمة الإلهية التشريعية البالغة.
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ: فرعا عما تقدم، فذلك محط الفائدة من ذكر الخلاف المتقدم، على تضمين: "استبقوا" معنى: "ابتدروا"، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، وفيه إشارة إلى ما تقدم من لزوم فورية الامتثال ببلوغ خطاب الشارع المكلفَ.
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا: على حد التوكيد المعنوي بتقديم ما حقه التأخير، والتوكيد اللفظي بـ: "جميعا".
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ: فذلك، أيضا، فرع عما تقدمه، لدلالة الفاء التفريعية على ذلك ولا تخلو من معنى السببية والفورية، فالباري، عز وجل، سريع الحساب.
والله أعلى وأعلم.
¥