تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ: فذلك من الإطناب في التحذير فهو بمنزلة التذييل المؤكد لقوله: (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ). وقد أظهر الاسم الجليل: "الله" في موضع الإضمار فرعا عن تقدم ذكره في صدر الآية، أظهره تربية للمهابة في سياق الأمر بالتزام الشريعة فذلك من آكد ما يذكر فيه العباد بربهم الجليل، بقدره الكوني النافذ فيهم، الحكيم بقدره الشرعي الحاكم فيهم، فضلا عن إعادة الموصول وصلته: "ما أنزل الله إليك"، فالقياس: واحذرهم أن يفتنوك عن بعضه، فأظهر أيضا، لذات السبب كما أشار إلى ذلك أبو السعود رحمه الله.

فاحذرهم أن يفتنوك عن بعضه: ففيه إشارة بالأدنى إلى الأعلى، فإذا كان اتباعهم في حكم واحد كفيلا بلحوق وصف الشرك بمتبعهم على حد قوله تعالى: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)، إذا كان ذلك كذلك فكيف بمن نحى جملة من الأحكام، بل كيف بمن نحى معظمها، فاستبدل أحكام الشرائع الوضعية الأرضية الناقصة بالأحكام الشرعية السماوية الكاملة، فذلك يهودي الإرادة إذ قد استبدل رزق الأرض برزق السماء، بل هو أسوأ منهم حالا، إذ قد استبدلوا رزقا أقل نفعا برزق أعظم نفعا، وأما التارك لحكم السماء إلى حكم الأرض، فقد استبدل رزقا لا نفع فيه بل ضره أكثر من نفعه، إن كان فيه نفع أصلا، فهو ذريعة إلى إفساد المحل الذي يرد عليه، استبدل رزقا هذا وصفه من الفساد والدنو، برزق الوحي الذي جاء بأصدق الأخبار وأعدل الأحكام فقد بلغ من الصلاح والعلو غايته. وذلك جزاء من أعرض عن الوحي، فإنه موكول إلى عقل فلان أو فلان يتسول من نحاتات أفكارهم ما يبتغي به صلاح دنياه، فلا الدين سلم له، ولا الدنيا صلحت له، فقد أصابها من الفساد بقدر تنحية الوحي عن قيادة الركب، وتأمل حال المجتمعات التي عطلت فيها الشرائع عبادات ومعاملات وحدودا وسياسات: تجدها أفسد المجتمعات الإنسانية فمعدلات الجرائم قد بلغت نسبا قياسية، ومعدلات الفقر قد بلغت الذروة، إذ قد عطل أفرادها أسباب استجلاب الأرزاق الكونية بامتثال الطريقة الشرعية، على حد قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ). وتلك سنة كونية جارية. ولا مبدل لكلمات ربك الكونية.

فَإِنْ تَوَلَّوْا: على حد التهديد، فالمشروط قد علق على الشرط الذي هو موضع الذم، فكان إتيانه على حد المساءة والنكاية بحجب الهداية الشرعية فذلك من أعظم نقم الرب الجليل، جل وعلا، على العصاة، فقلوبهم قد أريد بها شر بمقتضى الإرادة الكونية النافذة، فعافت الشرائع التي هي غذائها النافع وقنعت بفتات موائد الأذهان على حد التسول الآنف الذكر، مع أن أصحابها أحرص الناس على الأبدان الفانية بانتقاء وانتخاب أجود المطعومات والمشروبات والملبوسات، فذلك، أيضا، مئنة من الخذلان إذ قد شغل صاحبه بالفاني عن الباقي، فعمر أبدانا مآلها إلى الفساد ضرورة، وشيد بنيانا مآله إلى الهدم يقينا فـ: (وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا)، وخرب أرواحا هي الباقية، ولم يعمر دار يسكنها في الدار الباقية.

فإن تولوا: فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ: فالإرادة كونية نافذة إذ لا يريد الباري، عز وجل، إضلال عباده شرعا، بل قد أرسل الرسل الهادية وأنزل الشرائع المحكمة رحمة بعباده أن يضلوا في فلوات المقالات الأرضية الحادثة، وإنما أراد ذلك كونا لحكمة تفوق مصلحة هداية من لا يستحق الهداية ممن سبق علم الرب، جل وعلا، في الأزل بفساد قلبه فليس محلا قابلا لآثار الوحي الهادي.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير