وقدم ما حقه التأخير إذ لا بد لهم من وجهة يبتغونها، فذلك معنى كلي مطلق يقوم بكل نفس حساسة متحركة تسعى إلى ابتغاء ما ينفعها، وإن لم يكن كذلك في نفس الأمر، فلكل نفس وصفها من الحكمة أو السفه، فلما كان الابتغاء حتما لازما، وجب بمقتضى القسمة العقلية اللازمة انقسام معنى الابتغاء الكلي المطلق إلى معان جزئية مقيدة، فالناس في ذلك على ضريبن:
الأول: مبتغي حكم الشريعة، وهو الممدوح بمفهوم تعلق الذم والإنكار بمبتغي حكم الجاهلية، فضلا عما ذيلت به الآية من النص على مدح المتقين، الذين ارتضوا حكم رب العالمين في سائر أمرهم: علما وعملا وسياسة وحكما وأخلاقا وأحوالا.
والثاني: مبتغي حكم الجاهلية، وهو المذموم بمنطوق الآية.
فقدم متعلق الذم، إذ ليس الذم متعلقا بمطلق الابتغاء فهو حتم لازم، كما تقدم، وإنما الذم متعلق بابتغاء حكم الجاهلية فهي محط الفائدة، فتقديمها وحقها التأخير مئنة من تسلط الإنكار عليها على حد الاختصاص والتوكيد، إذ لا ذم يتعلق بابتغاء حكم الشريعة، فالذم في هذا الباب مختص بحكم الجاهلية الذي جاء على حد المضاف إلى المحلى بـ: "أل" الجنسية، فأفاد العموم بمادته من جهة عموم "أل" الاستغراقي لأفراد ما دخلت عليه فكل صور الجاهلية: علوما أو أعمالا محط الإنكار إلا ما اعتبره الشرع من العادات والأعراف، كأحكام القسامة والديات، فالحجة فيه لا فيها كائنة، إذ لو لم يعتبرها لم تعتبر، فهي على حد شرع من قبلنا فإنه لا يعتبر إلا بإقرار شرعنا له بالنص علية إجماعا، أو حكايته والسكوت عنه عند جمع من الأصوليين، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، إذ السكوت في موضع البيان: بيان، وتأخير البيان عن وقت الحاجة، ومقام التشريع لا يحتمل التأخير، تأخير بيان ذلك لو كان غير مشروع: غير جائز، فلو كان كذلك ما وسع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم السكوت عن بيان حاله من عدم الجواز، بل لو كان مما يصح فيه الاجتهاد، على القول بجواز الاجتهاد في حقه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فاختار عليه الصلاة والسلام خلاف الأولى ما أقره الوحي على ذلك لمكان عصمته عليه الصلاة والسلام، فلا بد أن يرشده إلى الأولى كما في حادثة أسرى بدر.
وقد يقال بأن عموم الإنكار منصب على المضاف: فأحكام الجاهلية علوما أو أعمالا كلها محط الإنكار إلا ما استثني من آثار دين الخليل عليه السلام، على ما تقدم بيانه، والأمر يسير إذ العموم في "الجاهلية" قد استفيد من مادتها والعموم في: "حكم" قد استفيد من إضافتها، فالعموم في كليهما على كل حال: حاصل، وهو مخصوص بما أقره الشرع، كما تقدم، ولقائل أن يقول بأنه عموم محفوظ لا مخصص له، إذ ما كان من أعراف الجاهلية فأقره الإسلام، هو عند التأمل: قد صار من أحكام الإسلام، والذم في الآية متوجه إلى مبتغي حكم الجاهلية لا مبتغي حكم الإسلام.
ولو قدر معطوف عليه محذوف يلي همزة الاستفهام فجملة: "حُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ" معطوفة عليه بالفاء، لو قدر ذلك على ما يلائم السياق من توجه الذم إليهم لكان أبلغ في توكيد معنى الذم، كأن يقال: أفسد قياس عقلهم فحكم الجاهلية يبغون؟!.
والمضارع مئنة من الاستمرار والتجدد فهم على غيهم مقيمون، وذلك آكد في توجه الذم إليهم.
وقرئ بـ: "تبغون"، بتاء الخطاب فذلك من الالتفات من الغيبة في: "فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ" إلى الحضور في: "تبغون"، على القول بتوجه الذم إلى المخاطب الذي نزلت فيه الآية، وهم يهود، أو توجهه إلى كل مخاطَب ابتغى حكم الجاهلية ولو كان على غير الملة اليهودية، فذلك آكد في توجه الذم إلى المخاطب أيا كانت عينه.
فالآية بالنظر إلى سببها: خاصة بيهود الذين بدلوا حكم الكتابين: التوراة والقرآن، فكتموا حكم الرجم، على ما تقرر في سبب النزول.
وبالنظر إلى لفظها ومعناها: عامة، إذ الذم متوجه إلى كل من ابتغى أحكام الجاهلية: بائدة كانت أو كائنة، والعبرة بعموم اللفظ والمعنى لا بخصوص السبب كما قرر ذلك الأصوليون، وهو مما يثري السياق بتوسيع دائرة لفظه لتعم أفرادا متعددة ممن تحقق فيهم الوصف الذي أنيط به الذم، وهذا أصل مطرد في كل نصوص المدح والذم، فإنها مطردة في حق الموافق، منعكسة في حق المخالف، فذلك من قياس الطرد القرآني الذي سبقت الإشارة إليه في مواضع سابقة.
ثم جاء الاستفهام الإنشائي الذي يفيد الإخبار بالنفي: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ: فهو على تقدير: لا أحسن من الله حكما لقوم يوقنون. واختصاصهم بالذكر تعريض بغيرهم، إذ ثبت لهم بالمفهوم نقيض وصفهم فالأولون: موقنون، والآخرون: مرتابون، فشتان الحالان!، وليس للسياق مفهوم ينفي حسن حكم الله، عز وجل، لغير الموقنين، إذ لازم ذلك إبطال تكليفهم باتباع حكم الوحي المنزل، فهو حسن للموقنين، قبيح لهم!، وذلك ظاهر البطلان بداهة، وإنما المراد التعريض بهم، كما تقدم، أو يقال بأن الحسن باعتبار اعتقاد المكلف فهو حسن عند من يؤمن به، قبيح عند من فسد قلبه وعقله فكفر به وقدم عليه أحكام متشرعي الأمم ممن اضطربت عقولهم وتفاوتت أنظارهم في تقدير المصالح والمفاسد المعتبرة فلا يحسم النزاع بينهم إلا وحي نازل من السماء.
واللام في: "لقوم يوقنون": لام التبيين على حد قوله تعالى: (هيهات هيهات لِما توعدون)، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله.
وقوله تعالى: (فقولا له قولا لينا)، كما نسب ذلك ابن هشام، رحمه الله، في "شرح الشذور" إلى ابن مالك، صاحب الألفية، رحمه الله.
والله أعلى وأعلم.
¥