تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ[مهاجر]ــــــــ[19 - 10 - 2009, 03:02 م]ـ

ومن قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)

فالنداء موجه إلى المؤمنين على حد التنبيه توطئة لما بعده من النهي عن تولي كفار أهل الكتاب: ولاية المحبة والنصرة والتأييد، سواء أظهرت أم بطنت، كأن يتمنى ظهورهم على أهل الإيمان، وإن لم يعنهم، فذلك من نواقض أصل الملة، وإليه أشار الشيخ الشنقيطي، رحمه الله، بقوله: "ويفهم من ظواهر هذه الآيات أن من تولى الكفار عمداً اختياراً، رغبة فيهم أنه كافر مثلهم". اهـ

إذ لا ينفك من هذا حاله عن بغض للدين وأتباعه، فهو لعدوهم مظاهر موال، ولو بالقلب، فهو محط العقود الإيمانية التي تحلها مناصرة الكافرين على المؤمنين، فكيف إذا عاونهم وتواطأ معهم، والكلام في تقرير عموم الأحكام لا في خصوص الكلام عن الأعيان، فليس ذلك، كما تقدم في أكثر من موضع، بالشغل الشاغل في معرض تصحيح الديانة بامتثال مأمورها واجتناب محظورها، وإنما هي ذكرى لمن يقرأ ليتفقد عمل القلب فهو من أدق الأعمال وأخفاها، فشركه: الشرك الخفي، وحاله من اسمه: متقلب، فإن لم يلجم بإرادات شرعية نافعة، ضاع في فلوات الشبهات والشهوات والإرادات الأرضية النفعية على حد مصالح أرباب السياسة الذين صيروا الصراع: صراع مصالح استرانيجية بلا خلفية عقدية، ولا أحد ينكر تلك المصالح، ولكن تعليق الأمر برمته عليها، تسطيح لسنة التدافع الكونية.

فالنهي قد انصب على المصدر الكامن في الفعل: "تتخذوا"، و: "الاتخاذ": مئنة من الافتعال ففيه معنى التكلف الذي لا يتصور معه أن يكون من الخطأ المعفو عنه، بل هو من العمد على حد الإصرار والترصد.

واتخاذهم أولياء على درجات: أدناها: التحريم وأعلاها الخروج من الملة بالرضا بدينهم وتمني ظهوره على دين التوحيد، وبينهما مراتب فصل المحققون من أهل العلم القول فيها فهي من الدقة بمكان.

و: "أل" في اليهود والنصارى: جنسية استغراقية فشملت كل يهود بشتى طرائقهم، وكل النصارى بشتى كنائسهم: ملكانيين كاثوليك، أو يعاقبة أرثوذكس، أو بروتستانت، أو إنجيليين متصهينين ..... إلخ من طرائقهم التي تعددت بتعدد أهوائهم حتى ضاع الدين الصحيح بينها، بخلاف ما وقع في أمة الإسلام من الفرقة والانقسام، فإن مقالة الحق، ولله الحمد محفوظة، بل هي نحلة السواد الأعظم من هذه الأمة المرحومة، فاجتماعها على الحق أعظم من اجتماع سائر الأمم، إذ قد اجتمعت على خبر الوحي المعصوم الذي لم تنله يد تبديل أو تحريف، وافتراقها أيسر، إذ متشابه نصوصها، وهو عمدة أصحاب الشبهات، أقل، مع ما ورد من محكم يرد إليه لمن أراد به الله، عز وجل، السداد، فلا يضرب آي الكتاب بعضها ببعض، كما يفعل أصحاب المقالات الردية من المشككين في ملة الإسلام أو نحلة أهل السنة.

فعم الأمر بالنهي عن اتخاذ عموم أولئك أولياء على حد المحبة القلبية وما يتفرع عنها من النصرة العملية، فإن النفس لا تتحرك نصرةً إلا إلى ما يشاكلها في الباطن، فالظاهر مرآة الباطن، فلا يشبه الزي الزي أو العمل الظاهر العمل الظاهر حتى يشبه القلب الباطن القلب الباطن، كما أثر نحو ذلك عن ابن مسعود، رضي الله عنه، إن لم تخن الذاكرة. .

بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ: على حد الفصل، إذ ذلك منزل منزلة العلة لما قبله، فحسن الفصل لشبه كمال الاتصال، كما تقدم مرارا، فبعضهم أولياء بعض: على حد القصر الإضافي بتعريف الجزأين، إذ تقدير الكلام: بعضهم أولياء بعضهم الآخر، فالتنوين عوض عن الضمير المحذوف، فذلك مشعر باجتماعهم على قلب رجل واحد حال قتال أهل الحق أو فتنتهم عن دينهم، وإن كان بينهم من الشقاق والاختلاف ما الله به عليم وتاريخ حروبهم الدينية خير شاهد على ذلك، وإنما استزلهم الشيطان فجمع قطعانهم المتنافرة لحرب الملة الخاتمة. فإذا كانت تلك ولايتهم لم يصح لمؤمن أن يتلبس بوضر منها.

وقد حملها صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، على ولاية اليهود لليهود، والنصارى للنصارى، فلم يجعلها فيهم عامة، والخلاف يسير إذ معنى النهي في كلا الحالين مطرد، فموالاتهم سواء أكانوا مجتمعين أم متفرقين: محرمة بنص التنزيل.

ثم جاء الشرط في معرض التهديد:

وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ: فإما أن يحمل كونه منهم على حقيقته إن كانت موالاته لهم مخرجة له من دائرة الإسلام بالكلية، وإما أن يحمل ذلك على حد التشبيه البليغ الذي حذفت منه أداة التشبيه ووجهه على تقدير: فإنه كمثلهم في استحقاق الوعيد وإن كان وعيدهم مؤبدا، ووعيده غير مؤبد.

وإلى ذلك أشار ابن عطية، رحمه الله، بقوله:

"ومن تولاهم بمعتقده ودينه فهو منهم في الكفر واستحقاق النقمة والخلود في النار، ومن تولاهم بأفعاله من العضد ونحوه دون معتقد ولا إخلال بإيمان فهو منهم في المقت والمذمة الواقعة عليهم وعليه". اهـ

إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ: فهو على حد التعليل لما تقدم من صيرورة من تولاهم منهم، كما ذكر ذلك أبو السعود، رحمه الله، وإظهار لقبهم: "القوم الظالمين" وحقه الإضمار لتقدم ذكره: تعريض بهم وبمن والاهم، إذ وصف الظلم به لاحق، فقد وضع ولايته فيمن لا يستحق، وذلك من الظلم بمكان، سواء أكان ظلما أصغر لا يوجب الخروج من الملة إن لم تكن صورة الموالاة تستوجب التكفير، أم كان ظلما أكبر يستوجبه إذا كانت صورة الموالاة مكفرة.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير