تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)، و: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) ..... إلخ، ويكذبه الحس، فوصف الإيمان والصلاة والزكاة متحقق في أفراد كثيرة من هذه الأمة فحصره في آحاد بعينهم قدح في عدالة أمة زكاها الله، عز وجل، فجعلها شاهدة على بقية الأمم، والشاهد لا يكون إلا عدلا، ولا تتصور عدالة بلا إيمان وصلاة وزكاة.

الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ:

تقييد بالبدل على سبيل البيان بعد الإجمال، والقول بأنه عطف بيان أولى من القول بأنه بدل، إذ المبدل منه غير مراد بالحكم أصالة، وذلك غير متصور في هذا السياق إذ الإيمان أصل ما بعده من الأعمال من صلاة وزكاة ........ إلخ، وقد حسن الفصل لكمال الاتحاد بين المتعاطفين فالمؤمنون هم الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وتقييد ذلك بالحال: "وهم راكعون": يزيد المعنى بيانا، وحمله على الخضوع أولى من حمله على الركوع الاصلاحي، إذ لو حمل على الركوع الاصطلاحي لكان في الكلام تكرار، فالصلاة متضمنة له، بخلاف ما لو حمل على الخضوع، فيكون الكلام على التأسيس، وحمله على التأسيس إذا احتمل التأسيس والتوكيد معا أولى إثراء للمعنى على ما قرر الأصوليون.

وتلك من المواضع التي تقدم فيها الحقائق اللغوية المطلقة على الحقائق الشرعية المقيدة لقرينة السياق الذي يرجح معنى على آخر، على حد الأمر بالصلاة في نحو قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، فهو محمول على حقيقة الصلاة اللغوية التي هي: مطلق الدعاء، إذ لا تتصور إرادة الصلاة الشرعية في هذا السياق.

والسياق، كما تقدم، مرارا، أصل في معرفة مراد المتكلم، فهو قيد مبين لما يتطرق إليه الإجمال من المطلقات اللفظية التي تحتمل أوجها معنوية متعددة، فيأتي السياق باعتبار بعضها وإلغاء بقيتها، فيزول الإجمال الناشئ عن توارد أكثر من معنى على اللفظ المجمل.

فالركوع في هذا السياق من جنس الركوع في قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ)، فلا ينقادون ويخضعون لأمر الشرع الملزم، ولو قيل بأنها من الكناية بنفي ركوع الصلاة عن نفي عموم الانقياد والخضوع لكان له وجه، فيحمل اللفظ على كلا الوجهين: الركوع الاصطلاحي ولازمه من الخضوع، إذ الأول مئنة من الثاني، فأغلب الراكعين بأبدانهم قد ركعت قلوبهم ابتداء إلا فئاما من المنافقين لا يبلغ عددهم حدا يخرم القاعدة الكلية، فيكون الركوع في هذا السياق قد استخدم في الحقيقتين: الشرعية واللغوية، وإلى طرف من ذلك أشار صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله بقوله:

"فهو من الإِدماج لينعي عليهم مخالفتهم المسلمين في الأعمال الدالة على الإِيمان الباطن فهو كناية عن عدم إيمانهم لأن الصلاة عماد الدين ولذلك عُبر عن المشركين بـ: {الذين هم عن صلاتهم ساهون} [الماعون: 5].

والمعنى: إذا قيل لهم آمنوا واركعوا لا يؤمنون ولا يَركعون كما كني عن عدم الإِيمان لما حكي عنهم في الآخرة: {ما سلككم في سقر قالوا لم نكُ من المصلين ولم نك نطعم المسكين} [المدثر: 42 - 44] إلى آخره". اهـ

وذلك مما قد يستأنس به من يجوز حمل المشترك اللفظي على كلا معنييه، فالسياق لكليهما محتمل بلا تعسف أو تكلف، وهو، أيضا، مما قد يستأنس به من يجوز دلالة اللفظ على حقيقته ومجازه في آن واحد، عند من يقول بالمجاز، لو قيل بأن تخصيص الشرع اللفظ بمعنى اصطلاحي نوع تجوز في دلالته إذ قد صار خاصا في صورة بعينها هي الصورة الشرعية المعهودة بعد أن كان عاما في كل الصور، والمخالف يجيب بداهة بأن نص الشارع، عز وجل، في حد ذاته: حقيقة شرعية مرادة لذاتها، فهي الأصل المقدم في نصوص الوحي إذ قد نزل لبيانها لا لبيان الحقائق اللغوية فتلك كانت معهودة جارية على الألسنة فلا تفتقر إلى بيان الوحي، بخلاف الشرائع التي لا تعرف إلا من جهته، فنزوله بها أولى وآكد إذ هي المفتقرة إلى بيانه.

وجاءت جملة الصلة: "يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ"، والمعطوف عليها: "وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ": على حد المضارعة على ما اطرد من استحضار الصورة ومئنة من دوامهم على ذلك الوصف المستلزم للمدح الشرعي، وجاء التقييد بالحال: "وَهُمْ رَاكِعُونَ": احترازا من صورة النفاق، فأداهم على حد الاستسلام القلبي الباطن والانقياد البدني الظاهر.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير