تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فـ: "هل" بمعنى النفي في هذا السياق على وزان قوله تعالى: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ)، وذلك عند التحقيق سبب يقتضي المدح لا الذم، فلا وجه للنقمة على صاحبه إلا إن كان الناقم فاسد التصور، فأداه ذلك إلى فساد العمل بأن نقم على صاحب الخق المؤيد بالدلائل والبراهين أن التزم ذلك الحق بمنزلة الكسول إذ ينقم على المجتهد تفوقه، فلا يكون ذلك إلا من قلة في العقل وسوء في القصد، فلا يحمله على ذلك إلا حسد من جنس حسد إبليس لآدم عليه السلام أن اصطفاه وأسجد له ملائكته، فظن إبليس في نفسه العلو وظن في آدم الدنو، فاعتبر بقياسه الفاسد ما ألغاه الرب، جل وعلا، إذ قدم آدم عليه السلام عليه فأبى إلا تأخيره فاستحق الطرد والإبعاد من رحمته، وهذا حال أهل الكتاب مع أهل الإسلام، على حد قوله تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ)، وقوله: "من بعد ما تبين لهم الحق": احتراس بانتفاء عذر الجهل في حقهم فهم أهل الكتاب الأول الذي بشر بالنبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم اسما ووصفا، فانتظروه حتى إذا ما جاء من غيرهم أنكروه وكتموا وصفه، فأولئك أجداد من يدعي اليوم الإنصاف والموضوعية واحترام الآخر!.

ثم أطنب في بيان تلك النقمة الظالمة:

وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ: فذلك مما يجري مجرى إيراد المدح مورد الذم، على حد قولك: فلان ما فيه عيب إلا أنه تام الإيمان!، فقد آمن بكتابه تفصيلا، وبالكتاب الذي أنزل قبله إجمالا إذ لم يتكفل الله، عز وجل، بحفظه، كما تكفل بحفظ الكتاب العزيز، وكرر فعل الإنزال على حد التوكيد بالإطناب تكرارا، فضلا عما لدلالة الإنزال من تعظيم المنزَل إذ هو من الرب، جل وعلا، نازل، فشرفه من شرف منزِله.

وإلى طرف من ذلك أشار صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، بقوله:

"والاستفهام إنكاري وتعجّبي. فالإنكار دلّ عليه الاستثناء، والتعجّبُ دلّ عليه أنّ مفعولات {تنقمون} كلّها محامد لا يَحقّ نَقْمُها، أي لا تجدون شيئاً تنقمونه غير ما ذكر. وكلّ ذلك ليس حقيقاً بأن يُنقم. فأمّا الإيمان بالله وما أنزل من قبلُ فظاهر أنّهم رَضُوه لأنفسهم فلا ينقمونه على من ماثَلَهم فيه، وأمّا الإيمان بما أنزل إلى محمّد فكذلك، لأنّ ذلك شيء رضيه المسلمون لأنفسهم وذلك لا يهُمّ أهل الكتاب، وَدَعا الرسول إليه أهل الكتاب فمن شاء منهم فليؤمن ومن شاء فليكفر، فما وجْه النقْم منه". اهـ

وفي مقابل ذلك: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ: إلا من آمن على حد: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)، فما ذنب آل لوط أن تطهروا والآخرون بوصف التنجس قد تلبسوا؟!.

والله أعلى وأعلم.

ـ[مهاجر]ــــــــ[28 - 10 - 2009, 05:53 م]ـ

ثم أطنب في التهكم بهم فجاء الاستفهام في معرض التشويق إلى ما بعده:

قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ:

فاستعملت: "هل" في السياق الأول للنفي، واستعملت في هذا السياق للتشويق، ولم تخل في كلا السياقين من نوع تهكم.

وقد يقال بأن الإتيان بلفظ "المثوبة" في معرض الوعيد الذي يلائمه العقاب يقوي معنى التهكم الذي اطرد في سياق هاتين الآيتين، وقد يقال في الرد على ذلك بأن الثواب يطلق على الخير أو الشر، ويؤيده قوله تعالى: (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).

فيفيد مطلق الجزاء، والسياق هو الذي يحدد المعنى المراد: أخيرا في معرض الوعد، أم شرا في معرض الوعيد.

قال صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، منتصرا للرأي الأول:

"والثواب: هو ما يجازى به من الخير على فعل محمود وهو حقيقته كما في «الصحاح»، وهو ظاهر «الأساس» ولذلك فاستعماله في جزاء الشر هنا استعارة تهكمية. وهذا هو التحقيق وهو الذي صرح به الراغب في آخر كلامه إذ قال: إنه يستعمل في جزاء الخير والشر. أراد أنه يستعار لجزاء الشر بكثرة فلا بد من علاقة وقرينة وهي هنا قوله: {الكفار} ". اهـ

وهل في هذا السياق محمولة على معنى "قد"، كما في قوله تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ)، مع ما لها من معنى العجب من عدم إفلاتهم من العقاب، كما قرر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فتأمل غزارة "هل" الدلالية بقرينة السياق الذي ترد فيه فهو مئنة من سعة ألفاظ لسان العرب إذ تدل على معان عدة على سبيل البدل أو الشمول لأكثر من معنى في آن واحد، والسياق، كما اطرد مرارا، هو الحكم الفصل في مثل تلك المضائق.

وقد تولد من هذا الاستفهام: استفهام آخر حذف لدلالة السياق عليه، فالسامع قد تطلع إلى معرفة من ذلك وصفه، فجاء الجواب على تقدير مبتدأ محذوف: هو من لعنه الله.

وأطنب في وصف الذم تبكيتا لهم وتنفيرا من طريقتهم، وأظهر في موضع الإطناب: (مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ) تربية للمهابة على ما اطرد من كلام أبي السعود رحمه الله، والجعل كوني على سبيل القدر النافذ عقوبة لهم، وهو بمعنى التصيير، على ما قد علم من قصة أصحاب السبت، ففيه تعريض بهم بإيراد طرف من تلك الحادثة التي كتموها خشية الافتضاح والتعيير بها.

ثم جاءت الإشارة بالبعيد: (أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ): مئنة من دنو منزلتهم وبعدها في معرض الإطناب في ذم أسلافهم تصريحا وذمهم تلميحا إذ ساروا على طريقتهم فلزمهم ما لزم الأولين من الذم، فللنظير حكم نظيره.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير