تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقوله: "يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ": كناية عن وصف الله، عز وجل، بالبخل، ولا يلزم من ذلك تأويل اليد على حد ما قرره المتكلمون، إذ الكناية لا يمنع تصورها إمكان الحقيقة التي جاءت الكناية بلفظها، بخلاف المجاز الذي لا يمكن تصور الحقيقة فيه على حد الإمكان، فلو قيل بأنها كناية ما صار ذلك تأويلا، إلا إذا التزم صاحبها التأويل صراحة، فأهل السنة يقولون: هي كناية عن وصفه، جل عما يقول أخبث يهود، بالبخل، ولا يمنع ذلك ثبوت صفة اليد له، جل وعلا، على الوجه اللائق بجلاله، فهي على كيف لا تدركه العقول وإن وسعها إدراك المعنى الكلي لليد فهي صفة ذات يتصورها الذهن مطلقة فإذا قيدت في الخارج بالموصوف بها صارت فرعا عنه في الكمال أو النقصان، في الإدراك لحقيقتها أو عدم الإدراك، والله، عز وجل، ليس كمثله شيء، فليس كذاته ذات أصلا، وليس كوصفه وصف: فرعا، إذ الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فانتفاء المثلية في الأصل يوجب انتفاءه في الفرع، إذ للفرع حكم أصله بداهة.

والمتكلمون يقولون: هي كناية وذلك مانع من إرادة الحقيقة، فيلزم تأويلها بالنعمة أو القوة أو القدرة .......... إلخ تبعا للسياق الذي ترد فيه، فيكون من باب التأويل باللازم، على حد ما قرره المتأخرون من التأويل الاصطلاحي المعهود بصرف اللفظ عن ظاهره المتبادر لقرينة مانعة، بخلاف قول أهل السنة فهو من باب التفسير باللازم، فلا يمنع ذلك من تصور ووجود الملزوم كما تقدم.

والتزام المتكلمين: التزام لما لا يلزم، إذ يصح ذلك لو تعذر الجمع بين الحقيقة والكناية، والجمع بينهما ممكن، كما تقدم، بل واجب لورود أدلة أخرى تثبت صفة اليد لله، عز وجل، على حد الجزم القاطع، بل السياق نفسه شاهد بذلك، إذ تثنيتها في قوله: "بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ"، مئنة من إرادة الوصف الذاتي، لا التأويل المعنوي، إذ المثنى نص لا يحتمل التأويل في إرادة معناه الذي يدل عليه، وتثنية المعاني أمر غير جار على لسان العرب، فالمعاني بمنزلة أسماء الأجناس الإفرادية على حد: الزيت والماء في الأعيان، فيستوي فيها القليل والكثير فلا حاجة إلى تثنيتها أو جمعها، فلا يقال في المعاني: قدرتان، أو قُدرات، وإنما يكون التفريق بينها تبعا للتقييد بالموصوف بها كقولك: قدرة الرب، وقدرة العبد، أو بالوصف كقولك: قدرة كبيرة، وقدرة ضئيلة. وهذا المعنى في وصف القوة أظهر، وتخصيص القدرة أو النعمة أو القوة بالتثنية أمر لا يستقيم نقلا أو عقلا، فليست نعم الله، عز وجل، اثنتين فقط، وليس له قوتان باعتبار الوصف الذاتي القائم به، تبارك وتعالى، بل هي قوة واحدة قائمة بذاته الواحدة، وإن تعدد تعلقها بما تظهر فيه آثارها من المخلوقات، فقوة الله، عز وجل، من أوصاف جلاله التي تظهر في عقوباته النازلة، وهي متعددة باعتبار آحادها فليس العقاب النازل بقوم نوح هو النازل بقوم هود .......... إلخ. وليست له قدرتان بل هي، أيضا، قدرة واحدة، وإن تعدد تعلقها بما يوقعه الله، عز وجل، في كونه من المقدورات.

فالحاصل أن اليد من صفاته، جل وعلا، الذاتية الخبرية التي لا يدركها العقل ابتداء، فلا بد من خبر وحي موقف.

ولما قالوا تلك المقالة الشنيعة جاء الدعاء عليهم من جنسها: "غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ"، وإليه أشار صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله بقوله: "وهي إنشاء سبّ لهم. وأخذ لهم من الغُلّ المجازي مُقابِلُه الغلّ الحقيقي في الدعاء على طريقة العرب في انتزاع الدعاء من لفظ سببه أو نحوه، كقول النّبي صلى الله عليه وسلم «عُصَيَّةُ عَصت الله ورسوله، وأسلم سَلَّمها الله، وغِفَار غَفر الله لها» ". اهـ بتصرف

فذلك من الخبر الذي يراد به إنشاء الدعاء، وقد جاء على حد الفصل لشبه كمال الاتصال بينه وبين مقالتهم إذ هي السبب الموجب لاستحقاقهم هذا الدعاء، فتعلق الذم بهم فرعا عما اكتسبته ألسنتهم من تلك المقالة الجارية على ما اطرد من طريقتهم في وصف الرب، جل وعلا، بصفات النقص المطلق.

وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا: فذلك من الإطناب في الدعاء عليهم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير