ثم جاء الإضراب: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ: فهو إبطالي لمقالتهم، انتقالي عن الدعاء عليهم، إذ لم يبطله بل هو عند التحقيق مقرر له، إذ ذكر الحق في المسألة مما يزيد عوار الباطل وقبحه فيصير تعلق الذم بصاحبه آكد.
وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا: على حد التوكيد بلام الجواب لقسم مقدر ونون التوكيد المثقلة، وذلك جار مجرى السبب لما قبله، كما ذكر صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فإنهم لما أعماهم الحسد فطغوا وكفروا، طعنوا في الرب، جل وعلا، فتولد من فساد قواهم الباطنة: فساد أحكامهم الظاهرة نطقا وفعلا.
وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: جزاء وفاقا لما أرادوه من إيقاعها بين المسلمين فالجزاء من جنس العمل كما قرر صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله.
كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ: فذلك جار مجرى الاستعارة، إذ موقد الحرب كموقد النار على جهة الإفساد، وقد يقال، أيضا، هي كناية، إذ لا يمنع تصورها: تصور المكنى عنه، بل كثيرا ما توقد النيران في الحروب كما جرى في فتح مكة، وإن كان إيقاد النار في ذلك الفتح المبين جار على حد الإصلاح، بل هو عين الإصلاح بتطهير البيت الحرام من رجس الأوثان، وصيرورة مكة: البلد الأمين: دار إسلام بعد أن كانت دار حرب.
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا: فذلك لازم إيقاد الحروب على عادتهم في كل الأعصار والأمصار فهم مادة الفتنة التي لا تهدأ حتى تنهار الأديان والأخلاق، فيسهل عليهم استرقاق الأبدان وتطويعها لخدمتهم: خدمة البهيم لصاحبه، ولعل ما جرى في أوروبا، وفي فرنسا تحديدا، إبان الثورة الفرنسية، خير شاهد على أثرهم الظاهر في إفساد الأمم بشعارات الماسونية التي ظاهرها الرحمة: حرية، إخاء، مساواة، وباطنها: العذاب: فالحرية: انحلال، والإخاء والمساواة: تمييع للعقائد وحل لعرى الولاء والبراء في القلوب بتصحيح كل الملل والنحل ولو كانت عين الباطل، فالكل ناج ولو تعددت الطرق في أمر لا يكون الحق فيه إلا واحدا لا يتعدد!، ولعل حوار الحضارات المزعوم فرع عن ذلك الفكر الماسوني المسموم.
والإتيان بالمضارع: "يسعون": مئنة من الاستمرار فذلك، كما تقدم، وصفهم اللازم عبر العصور والآماد. وقد قيد بـ: "الإفساد"، إذ تحتمل مادته عند الإطلاق: الإصلاح والإفساد، فجاء قيد الإفساد كاشفا عن وصفهم رافعا لأي احتمال للإجمال ولو كان ضئيلا.
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ: تذييل بذكر الجزاء بعد ثبوت الوصف لهم، فذلك آكد في تقرير المعنى: طلبا إن كان الجزاء محمودا، ودفعا إن كان الجزاء مذموما، ولكل مفهوم، فمفهوم تعلق وصف الذم بمن هو له أهل: تعلق وصف المدح بمن هو له أهل، فالله لا يحب المفسدين منطوقا، ويحب المصلحين: مفهوما، والعكس صحيح، فذلك مما يثري السياق بتعدد المعاني المستنبطة من لفظه المنطوق أو دليل خطابه المفهوم كما قرر أهل الأصول.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[02 - 11 - 2009, 03:01 م]ـ
ومن قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ)
فذلك جار مجرى الشرط إلهابا وتهييجا لهم ليمتثلوا أمر الشرع فيؤمنوا بآخر الرسالات المنزلة، فلو آمنوا واتقوا: على حد الخصوص بعد العموم، إذ التقوى من جملة الإيمان، فهي البيان العملي، ودخولها فيها دخول الجزء في الكل، كما اطرد من مقالة أهل السنة من كون العمل داخلا في مسمى الإيمان فدلالته عليه: دلالة تضمن، فالإيمان يتضمن أجناس التصديق والإقرار القلبي، والقول اللساني، والفعل الاختياري. وهو لازم له من وجه آخر إذ افتراض مؤمن مصدق مقر قد تحقق له عقد القلب، وهو ما ذلك لم يعمل خيرا قط، تصور تجريدي بحت لا وجود له في عالم الشهادة قط، فالبحث فيه: بحث نظري لا مثال له في عالم الشهادة كما نقل عن بعض المحققين من أهل العلم المعاصرين.
¥