تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فلو آمنوا: لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ: على حد التوكيد باللام في: "لكفرنا"، وإليه أشار صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، بقوله:

"واللام في قوله: {لكفّرنا عنهم} وقوله {ولأدخلناها} لام تأكيد يكثر وقوعها في جواب (لَو) إذا كان فعلاً ماضياً مثبتاً لتأكيد تحقيق التلازم بين شرط (لو) وجوابها، ويكثر أن يجرّد جواب لو عن اللام، كما في قوله تعالى: {لو نشاء جعلناه أجاجاً} في سورة الواقعة". اهـ بتصرف.

فذلك آكد للوعد وأبعث للهمم لتنهض إلى ذلك المطلوب العظيم، وجاء الإسناد إلى ضمير: "نا" الدالة على الفاعلين مئنة من تعظيم الباري، عز وجل، إذ تكفير السيئات من أخص أوصافه، فهو مما انفرد به، مئنة من كمال ربوبيته، جل وعلا، فلا يغفر الذنوب إلا هو، ولا يدخل الجنة بفضله إلا هو، إذ لم يكل ذلك إلى أصحاب كراسي الاعتراف وصكوك الغفران وشيوخ الطرق التي تكفلوا لأتباعهم بدخول الجنة بلا سابقة عذاب، في صورة من أفحش صور الطغيان البشري الذي استخف صاحبه بعقول أتباعه حتى جوز لنفسه منازعة الرب، جل وعلا، في وصف من أخص أوصافه!، وتكفير السيئات قبل دخول الجنان، من باب ما اصطلح أهل الطريق على تسميته بـ: التخلية قبل التحلية، فالتطهير قبل التعطير ليرد النعيم على محل نقي طاهر، قد هذب فصار أهلا لمباشرة أجناس النعيم الرباني، وأعظمها وأحوجها إلى التطهير الظاهر والباطن: رؤية الرب، جل وعلا، رؤية التنعم في دار المقامة.

وبعدها، كما تقدم، التحلية: وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ: مؤكدة باللام أيضا على حد التكرار ومضافة إلى ضمير الفاعلين على ما اطرد من تعظيم الرب، جل وعلا، وإضافة النعيم إلى الجنة من باب إضافة الظرف إلى مظروفه، إذ الجنة: ظرف النعيم المكاني.

ونداؤهم بأهل الكتاب نوع تأليف لقلوبهم على حد ما تقرر من كونهم بما عندهم من الكتاب الأول، ولو مبدلا، أهل لاتباع الحق من الوثنيين الذين لا دين لهم ولا رسالة بين أيديهم، ولا كتاب لهم يرجعون إليه، فإن الكتاب بعد التبديل لا يخلو من حق، بل فيه جملة متكاثرة من أقوال الحق، كما قرر ذلك المحققون من أمثال ابن تيمية، رحمه الله، في "الجواب الصحيح"، وإنما تسلط القوم على جملة منه بالكتمان والتحريف، وتسلطوا على ما بقي فيه من الحق بالتأويل الذي صيره كتابا يضل به الخلق بدلا من أن يهتدوا، فهو تأويل متكلف دقيق المسلك إلى حد الغموض الذي يصيره أحيانا أشبه بتأويلات الباطنية التي هي من اللعب كما قرر ذلك بعض المحققين من أهل الأصول، فلا نقل ولا عقل ولا لسان يشهد لها، إذ هي جارية على حد الهذيان بدعاوى مرسلة يمكن مقابلتها بدعاوى من جنسها، على طريقة: لم كان ما تدعيه حقا، لماذا لا يكون عين الباطل؟!، إذ لا دليل عليه عليه ابتداء، وتلك الطريقة المثلى لمجادلة أصحاب السفسطات العقلية كما ذكر ذلك الشاطبي، رحمه الله، في "الاعتصام" فيكفي أن تنقض دعواه بالسؤال عن علتها إذ لا علة لها إلا التحكم المحض، أو أن تقابلها بدعوى أخرى تبطلها ولو بلا دليل فتستوي الكفتان وينتهي الأمر!.

وخص صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، عموم: "أهل الكتاب" المستفاد من الإضافة إلى المحلى بـ: "أل" الجنسية باليهود، إذ هم المخاطبون، وقد يقال بأن خطاب المواجهة لهم لا يمنع إلزام غيرهم ممن كان على ملتهم اليهودية، ولو لم يكونوا حاضرين بأبدانهم زمن الرسالة فعمومه متعد إلى كل يهودي، ولا يمنع أيضا دخول النصارى المعاصرين لزمن الرسالة ومن أتى بعدهم، إذ وصف أهل الكتاب لهم شامل، فكتابهم: فرع عن كتاب موسى عليه السلام، فأصل ما بين أيديهم العهد القديم، وما طرأ عليه من العهد الجديد، أو الإنجيل، فلهم تعلق وثيق بكتاب اليهود يصدق معه أنهم أهله، أيضا، ولو لم يصدق لكانوا أهل كتاب باعتبار ما نزل عليهم من الإنجيل، فهم أهل كتاب على كلا الوجهين شاءوا أو أبوا!، فضلا عن العهد الذهني المطرد الذي يدل ضرورة على أن أهل الكتاب هم: اليهود والنصارى معا، فذلك بمنزلة القرينة العقلية المعتبرة التي تدخل كليهما تحت عموم اللفظ دخولا قطعيا جازما، بل إن عموم الآية المعنوي يتعداهم إلى غيرهم فالكل مطالب بالإيمان والتقوى، ولو كان وثنيا لا ينتحل رسالة سماوية، بقرينة عالمية الرسالة، فلم تنزل لأهل الكتاب فقط، وإن خصوا ببعض خطاباتها، وإلا ما توجه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى قومه ابتداء، وما تجشم بعث رسله إلى كسرى، فأولئك وثنيون لا يدخلون في حد هذا الخطاب باعتبار خصوص سببه الذي ورد عليه، فالعبرة بعموم المعنى لا بخصوص السبب، إذ قصر الخطاب على أهل الكتاب، بل على ملة منهم بعينها لا يعني خروج غيرهم عن حده، بل غاية الأمر أن الخطاب قد تعلق بهم باعتبارهم السبب، وتعلق بغيرهم لعمومه، فهم فرد منه، وذكر فرد من أفراد العام لا يخصصه، كما قرر أهل الأصول، فليس للمسكوت عنه من بقية الملل والنحل حكم يخالفهم، بل الكل في عموم الدعوة إلى الإيمان بالرسالة الخاتمة سواء.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير